-1-
كان مساء الثلاثاء 26 ربيع الأوّل 1432هـ الموافق 1 مارس 2011م موعدًا مع زائرٍ لا يلغي مواعيده، ولا يتقدّم أوانًا ولا يتأخَّر، زائر لا يقبل اعتذارًا ولا تسويفًا ولا تأجيلاً، زائر يضع حدًّا فاصلاً لمعاناة الجسد في صراعه والروح، أو بالأصح: صراع الروح في مَسْكَنِ الجسد، الذي ما ينفكّ يجلب الآلام عليها والمنغّصات، حتى في نشوة الملذّات، مذ صرخة الميلاد حتى آخر الأنفاس!
تُوفِّي الأب.. وبقي الرب.. ولا باقي إلاّ هو!
أتساءل أحيانًا: لماذا يبكي الباكون، ويحزن الحزانَى، أمام ذلك الطارق المبعوث؟!
إنْ كانوا مؤمنين، فالله هو المحيي وهو المميت، له ما أخذ، وله ما أعطى، وكُلٌّ عنده بأجلٍ مسمَّى. هو المالك، الفرد، المتصرّف، لا شريك له في مُلْكه، ولا معترض عليه في قضائه، ولا ألطف، ولا أرحم، ولا أكرم!
ثم ما الذي يجذبنا نحن إلى دنيانا الفانية التعيسة- إنْ كنّا مؤمنين؟ ولماذا لا نودّ فراقها أبدًا، ويعزّ علينا فراق من فارقها من عزيزٍ أو قريب؟! أهو الحنين إلى الشخوص؟ أم هي جاذبية الأرض؟ أم عدم إحسان ظنٍّ بمالك المُلك؟!
أوليس في إظهار الحزن هنا، إذن، قلّة أدبٍ مع الله؟! بلى؛ فهناك من ينتابه الحزن، حتى لكأنه قد وقع عليه عدوانُ ظالم، أو كأنه سطَى عليه باغٍ أثيم! وفي ذلك حماقتان: حماقة عقلٍ وروحٍ. ولذلك جاءت الآيات: «ولَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوفِ، وَالْجُوعِ، وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ، وَالأنفُسِ، وَالثَّمَرَاتِ، وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا: إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ.»(1) ...أولئك هم المهتدون؛ لأن الجسد هو الذاهب في الثرى، أمّا الروح فمن أمر ربّي: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ؟ قُل: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، ومَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً.»(2) وفي الحديث النبويّ، حول حزن محمّد صلى الله عليه وسلّم لوفاة ابنه (إبراهيم)، أنها «جَعَلتْ عيناه تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف، رضي الله عنه: وأنت يا سول الله؟ فقال: «يا ابن عوف، إنها رحمة». ثم أتبعها بأخرى، فقال، صلى الله عليه وسلّم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يَرضَى ربُّنا، وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».(3) وما كان استشكال ابن عوف ولا سؤاله إلاّ لهذا المعنى الذي تقدّم، من شأن المؤمن والحُزن، فكيف برسول الله! بيد أن العين والقلب غصنان من شجرة، يستجيبان لرياح العاطفة العاصفة، ولفطرة الانفعال، فهما من معاناة الإنسان في صراع بين الروح والعقل والجسد، وإلاّ لو تبصّر المرء، ما وجد للبكاء حينذاك من معنى ولا مَعين.. بل لكان أحرى به الفرح بلقاء من يُحبّ بمن هو أحبّ.
-2-
وتبقى الصالحات، إذ تنقطع الأعمال. فقد كان الفقيد أبي الشيخ أحمد بن علي بن سالم آل حالية الخُسافي الفَيفي -رحمه الله- مؤسّس التعليم شِبه النظاميّ في جبال فَيفاء، من خلال تأسيسه مَدْرَسَة الخَشْعَة. والخَشْعَة: بُقعة معروفة في جبل آل أبي الحَكَم، اشتهرت قديمًا بمدرستها تلك، التي خرّجت طليعة الجيل الأول من المتعلّمين من أهالي فَيفاء. وتُعَدّ تلك المَدْرَسَة، كذلك، أوّل مَدْرَسَةٍ في فَيفاء تفتح باب تعليم البنات. أسّسها، رحمه الله، سنة 1373/ 1374هـ. أي قبل قيام المدارس النظاميّة للبنات في المملكة العربيّة السعوديّة بسنوات. فقد صدر المرسوم الملكي بتعليم المرأة في المملكة في ربيع الآخِر 1379هـ= 1959م، وأُسّست الرئاسة العامة لتعليم البنات سنة 1380هـ. واشتعلتْ في البلاد ضدّ تعليم المرأة إذ ذاك رؤوسٌ، وهبّت معارضات ضارية من بعض الفئات الاجتماعيّة المتخشّبة والمتنطّعة(4). أمّا في فَيفاء، فقد تأخّر تعليم المرأة إلى التسعينيّات الهجريّة من القرن الرابع عشر. وقد اكتسبتْ مَدْرَسَة الخَشْعَة صِيْتًا، ولاسيما بعد زيارة تفقّديّة قام بها وفدٌ كبير على رأسه الشيخ عبدالله القرعاوي(5)، الذي كانت المَدْرَسَة ضمن مدارس المنطقة المدعومة منه، فأُطلق عليها: «معهد الخَشْعَة».
وُلد الشيخ أحمد في جبال فَيفاء، سنة 1337هـ، تقريبًا. وتلقّى تعليمه الأوّليّ، كغيره من مجايليه، في كُتّابٍ بفَيفاء، على يدي فقيه اسمه (علي بن حسين بن علي آل مُدْهِش الفَيفي، -1366هـ). وكانت لعليّ هذا مَدْرَسَة متنقّلة بين بيته والمسجد وبعض المتنزّهات، أُقيمتْ لأبناء قبيلتَي (آل الخُسافِيَة) و(آل المُثِيْب)، سنة 1355 - 1356هـ(6)، وذلك بأمرٍ من أمير فَيفاء راشد بن خثلان، وبتأييد شيخ شملها: علي بن يحيى بن شريف آل سَنْحان الفَيفي. وكان شيخ الشمل نفسه وأبوه من جُملة من طَلَبوا العِلم في اليَمَن. وكان الفقيه علي بن حسين من معلّمي فَيفاء الكُثر في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، الذين تلقّوا تعليمهم غالبًا في (ضَحيان)، باليَمَن، تعليمًا يتركّز على حفظ القرآن، ومبادئ الفِقه، والفرائض، وما إلى ذلك. وفي ذلك التاريخ، 1356هـ، أُلزم الآباء بدفع مقابِلٍ لتعليم أبنائهم. وكان المدرّس- كما يحكي لي أبي- يقوم بالتدريس مقابل خمسة ريالات على كلّ طالب، متى ما خَتَم القرآن. وللمدرّس «خميس» أيضًا- كما كان يُسمَّى- لأنها تُدفع للمعلّم أربع هللات في كلّ يوم خميس، يُحضرها كلّ طالب. وكان الأمير يُرسِل «خَوِيًّا»- كما يُدعَى- عند كلّ مَدْرَسَة، خلال كلّ شهر، لتفقّد الطلاّب والمدرّسين، كما يطلب حضورهم إليه في المركز، بعد كلّ ثلاثة أشهر، فيستمع إلى بعض التلاوات، ويهدّد المدرّسين المتهاونين، أو المتخلّفين من الطلاّب، بالسجن.
ويحكي أبي عن ذلك- مشيرًا إلى أن المرحوم جدّي علي بن سالم كان متعلِّمًا، يحفظ القرآن حفظًا جيّدًا، وكان شاعرًا شعبيًّا معروفًا- فيقول: «حضر أبي إلى المَدْرَسَة ذات نهار، ونحن قد تأهّبنا للحضور لدى الأمير بطلبٍ منه، فأخذ أبي اللوح الذي أكتبُ عليه، فكتب على ظاهره «الدِّلْعَ» الآتي- والدِّلْعُ ضربٌ من أوزان الشِّعر الشعبي:
يا سلامَ اللهْ على مِيْرِ البلادِ
عِدِّ نبتِ القاعِ وا نَوِّ الغَوَادي
والكَتِبْ ذا في الصُّحُوْفْ
عَزَّكّ اللهْ يا ابن خثلان العِمَادِ
سَيْف ابو طالبْ لهَبَّاتِ امجِهادِ
ما ترَيِّعْ لو الصُّفُوْفْ
ثُمَّ مِنْ بَعْدِ التحيةْ والسَّلامِ
وَصْلَنَا مِنْكَ كِتَابٍ واللَّزامِ
لا تَرانا اْلاَّ وُقُوْفْ
قِدْ حَصَلْنَا كلّنا وحْنَا وِلامِ
ما ايّنا يَشْكِيْ مِنِ الثانيْ كَلامِ
وقَصْدِنَا مَيْد تَشُوْفْ
قدْ قَرَيْنَا بالجَهِدْ وابْلَغْ عِنَايَةْ
نَعْرِفِ القُرآن مَرْكَى كلّ آيَةْ
ما غَلِطْنَا في الحُرُوْفْ
ولا تُعَابِيْنَا بِجَاهِلْ سا يُعَلَّمِ(7)
وَقْت قَصَّانُوْ مَعِدْ يَقْدرْ يكَلِّمِ
مِنْ جَوْر ما يَخَافْ
والاَّ معَلِّمْنَا قَهَا شَفّ المعلِّمَةْ
ومعنى الأبيات، بعد تحية الأمير: أن الآباء قد حضروا تلبيةً للأمير، ولكن لا يظنّن أنهم جَهَلَة، أو غير متعلّمين، ولا يؤاخذهم بأغلاط أبنائهم، فما ذلك إلاّ لهيبة الموقف والخوف من الأمير، وإلاّ فإن معلِّمهم هو خير المعلّمين على الإطلاق.
وعندما وصلنا إلى النفيعة- وما زال الحديث لأبي- واستقبلَنا الأميرُ وشيخُ الشمل ومجموعة من المشائخ والطلاّب والمدرّسين، الذين كانوا قد وصلوا قبلنا، صادف أن طَلَبَ منّي الأميرُ اللوحَ، فنَظَر فيه فإذا الأبيات السابقة مكتوبة على ظاهره! فأخذ يهدّد المعلِّم بالضرب والسجن، ويقول له: «نحن ما أردنا منك تعليم الشِّعر!».. فأَخَذَ الشيخ علي بن يحيى يهدّئ الأمير، ويقول له: «هذا ليس شاعرًا، وإنما والد هذا الطالب هو الشاعر، وأنا أعرفه». ثم أخذ الأمير يناقش معي: «هل هذا صحيح، أم أن المعلِّم يلعب عليكم؟!» فقلتُ له: «هو والدي نَظَمَ هذه الأبيات وكتبها».
ثم رجَع الأمير يقرأ الأبيات من جديد، وسَكَن روعه.
( وللحديث بقية ).
* * *
(1) سورة البقرة: 155- 157.
(2) سورة الإسراء: 85.
(3) البخاري، (1401هـ=1981م)، صحيح البخاري، بعناية: مصطفى ديب البُغا (دمشق- بيروت: دار القلم)، باب الجنائز، الحديث 1241، ج1: ص439.
(4) يُنظر مثلاً: البكر، فوزيّة بكر, (1988)، المرأة السعودية والتعليم: بحث في التطوّر التاريخي لتعليم المرأة السعوديّة عبر المراحل الدراسية المختلفة، (الرياض: الدائرة للإعلام)، 31- 32.
(5) هو الشيخ عبد الله بن محمّد بن حَمَد القرعاوي: مُصْلِح دينيّ، يُنسب إلى قرية القرعا شماليّ بريدة بالقصيم، وُلد سنة (1315هـ= 1898م). قَصَد تهامة 1358هـ، فأنشأ المدارس في سامطة وما جاورها، وأعان على إنشائها، وامتدّت مدارسه إلى عسير. توفي بالرياض سنة 1389هـ= 1969م. (يُنظر: الزركلي، خيرالدِّين، (1984)، الأعلام، (بيروت: دار العِلم للملايين)، 4: 13).
(6) هناك معلومتان مختلفتان حول تاريخ إنشاء المَدْرَسَة: (1355هـ) و(1356هـ).
(7) يُلحظ هنا أن الوزن كان يقتضي أن يكون: «سا يُعلَّمْ»، و»يكلِّمْ»، بسكون الميم؛ فالأبيات على وزن (الرَّمَل التام). كما يُلحظ أن المقطعين الأخيرين «من جَوْر ما يخافْ/ والاّ معلِّمنا قها شفّ المعلِّمةْ» مختلفا الوزن.
aalfaify@yahoo.com
http://khayma.com/faify
الرياض