هل كانت المدينة التي يحكي حسين الواد روائحها في روايته «روائح المدينة» مدينة؟ لا بد أن يستعيد القارئ هذا السؤال وهو يتدرج في قراءة الرواية، لأنه سؤال يكمن في البداية التي أسست عليها الرواية العلاقة بالقارئ بتبريرها ما تحكيه من زاوية الدفاع عن مدنية المدينة أمام استكثار الأجوار اسم المدينة فيها وحسدهم أهلها عليه. وهو سؤال يتفرع إلى أسئلة أخرى مرتدة على السؤال ذاته، متعجبة من اتخاذ الروائح دليلاً على مدنية المدينة؟ ومتسائلة عن معيار المدينة وشرطها الذي تبنيه الرواية وينتهكه الأجوار بتقليلهم من شأن المدينة؟. ولا ينفصل عن ذلك سؤال التصديق لتقرير الرواية الصفة الإيجابية المدحية للمدينة التي يفيدها حسد الأجوار، فالمحسود صاحب نعمة وامتياز وسبق، وشعور الحاسد تجاهه متأت من الاستكثار عليه ما هو فيه والرغبة في التساوي معه.
هذه الأسئلة ذات الجدية والعقلانية، بحكم نزوعها عن منطق الحجاج والدفاع والمديح واستشرافها له، تصطدم بما تفاجئنا به الرواية من مفارقة وتعجيب وتناقضات على أكثر من مستوى، وبما تتخذه من وجهة الانتقاد والثلب والعيب والفضح والتعرية للمدينة وأهلها. وتزداد مفاجأتنا دهشة من موقع الراوي والمؤلف الضمني في انتمائهما إلى المدينة، بما يقتضيه الانتماء من تحيز وموالاة، وتلبسهما -في الوقت نفسه- منطقاً ملتبساً بين الفخر والانتقاص، والجدية والعبث، والمديح والشتم، والمسارة والإعلان. وهذا يعني أن هذه الرواية محكومة بمنطق السخرية وببلاغتها التي تحتل موقعاً جوهرياً في الجنس الروائي، فالسخرية -لدى لوكاتش- «روح الأعمال الروائية»، ولها -عند باختين- أهمية حاسمة في صياغة المفهوم الحواري البوليفوني الذي بنا عليه امتياز الرواية، متخذاً من آليات الفولكلور الكرنفالي في امتيازه بالإضحاك بجد، جذراً لصنفها الذي وصفه ونظَّر له -أكثر ما نظّر للمفهوم- في دراسته لروايات دوستوفسكي.
وليس الإخفاء الذي يمارسه الراوي، بين حين وآخر، في إعلانه عن تحرجه من حكاية هذه الروائح أو تلك بسبب مؤدى الفضح والهتك الذي سينتج عنه غضب أهل مدينته أو وقوع المعرة عليهم ونحو ذلك، سوى وجه من وجوه الموقع الساخر الذي اندرج فيه الراوي بما رتَّبه له مؤلف الرواية الضمني. وهو وجه تنبجس فيه السخرية من موقع التناقض بين واجب الستر وجريرة الكشف، ولوازم الانتماء ومقتضيات السرد. وقد غدا هذا التناقض منطلَقاً لتفجير السخرية في المفارقة بين الجامع القديم والرائحة المنبعثة من ميضأته، فالجامع دلالة تطهر وروحانية ومعنى، بخلاف الرائحة التي أمعن الراوي في وصف عطنها فهي دلالة نجاسة ودنس وعيب، ودلالة محسوس مادي مغاير للروحانية والسمو.
كما يبدو التناقض حين زالت الرائحة لكن الناس ظلوا متعلقين بها وتغيرت علاقتهم بالجامع بسبب اختفاء الرائحة منه، وحين هدم الشباب الملتحون الجامع وأعادوا بناءه، فعجز طالب الهندسة الملتحي عن إرجاع الساعة الشمسية التي كانت قبل هدم الجامع. ويمكن أن ننظر إلى التناقضات السابقة وإلى كل تناقض مثير للسخرية من خلال منظور آخر هو التردي، الذي يشرحه جان كوهن بالعبور من القيمة إلى ضد - القيمة، فيتحول الخير إلى شر والجميل إلى قبيح والصدق إلى كذب، ولذلك -مثلاً- كان تحطيم الساعة الشمسية ضمن مشروع إعادة البناء للجامع وتحسينه دالاً على ادعاء القيمة والمعرفة، وكان العجز عن إعادة تركيب الساعة الشمسية تردياً للقيمة والمعرفة، مثلما هو في الآن ذاته -ومن وجهة أخرى- دال تناقض، يستشعر معه الساخر الشعور بالنصر، ويكشف عن المفارقات.
وتمضي الرواية في رصد التناقضات وبناء منظورها الساخر، عن طريق التبدل وفي مسار التردي الذي يغدو القديم على عوجه وبؤسه وعنفه أفضل من الجديد ومن الراهن، وذلك في نقض مستمر للتطور والتقدم. وتلك سخرية تنبني على مفارقة زمانية، فالرواية تصل بوصف عذابات المدينة وعجائبها والعدوان على أهلها في زمن ماض إلى حد مأساوي، ولكن تحولات الزمن وتبدلات حقب السلطة، وعلى رغم أسماء التغيير لكل منها، لا تقلل من تلك المأساوية بل تزيدها إلى حافة نفاذ الصبر. وفي أحد صرخات المؤرخ الحزين وصفٌ مصوّرٌ للتبدل للأسوأ، وهو قوله: «كنا في عهد دولة الاستعمار والحماية نسمع ونعرف ونعلم ونغضب ونسب ونشتم ونصرخ ونركل بأرجلنا. وكنا في عهد دولة الاستقلال والسيادة نسمع ونعرف ونتململ ونسكت، نبلع السكين بدمها. من كان يتصوَّر؟ من كان يصدق؟».
وتأخذ المفارقة شكلاً ساخراً من خلال الكشف عن الانفصال بين شعور أهل المدينة بمدينتهم وأبنائها الذي يتصف بالمثالية والفخر وبين الواقع الذي يؤول إلى التردي، وهو شعور يحتوي منظور الراوي بوصفه واحداً منهم، لتكشف المفارقة فيه عن درجة مريرة من سخرية التخبئة والإخفاء للقبيح، والأمثلة على ذلك كثيرة، نقف منها -مثلاً- على قول الراوي: «فاحت بتلك المحلات روائح أخرى زعمت ألسنة السوء أنها روائح مخدّرات. سمع رجال مدينتنا بهذه المزاعم فنفوها، نفخوا كالعادة صدورهم وقالوا: أبناؤنا وبناتنا فوق إفك المغرضين. ملائكة»! وكما تبدو التخبئة للقبيح آلية للسخرية، فإن إعلان كشف المخبّأ وفضحه أمام من اقترف فعل التخبئة له لا يقل سخرية عن ذلك، فأمام الموقف السابق «أخذت المؤرخ الحزين ضحكة بشعة أراد أن يمسكها فانفلتت منه فشرق بها فكادت تطلع معها روحه»!.
وقد كان بناء الشخصية في الرواية أحد آلياتها في إنتاج السخرية، فالمؤرخ الحزين، مثلاً، شخصيتها الأبرز، لا نعرف له اسماً، وإنما هذه الصفة المزدوجة، صفة المهنة وصفة الشعور. ومهنة التأريخ وثيقة العلاقة بالسخرية، من خلال ممارستها الفضح وكشف المخبَّأ، ويضاعف الحزن هذه الوجهة الساخرة بوصفه نتيجة صيرورة وتحول إلى الرديء، وافتقاد للأمل، وشعور بالمرارة، وهي مؤهلات الساخر، التي تصوغ رؤيته من زاوية النقد والعيب باستمرار وليس المديح، والشك وليس اليقين. وقد بث الراوي بالتدريج، في مراحل الرواية المختلفة، صفات جسدية وشخصية للمؤرخ الحزين، يؤول إليها في سياق تردٍ مستمر، فقد أصبح يتوكأ على العصا، وأشاع بعض الخبثاء أنه حزين لأنه مسكين عنِّين، وكبُر به الحزن حتى أصبح يمضي الأيام صامتاً ساهماً، يكشر لهم عن أسنانه النخرة بضحكة بشعة، يجرش رأسه التي أصبحت صلعاء بأظافر كانت دائماً متسخة.
أما موقفه فكان مناهضاً طوال الرواية للدولة، وناقداً لسياساتها، وناقماً على الزمن الذي يتردى باستمرار. وهو في الوقت نفسه، لا يكف عن نقد الناس في سلوكهم ومواقفهم وقناعاتهم. وهنا تناقض بين مهمة النقد الاجتماعي والسياسي تلك وضآلة المؤرخ الحزين وضعفه الجسدي وحزنه، ويزداد إنتاج هذا التناقض للسخرية في سلوك المؤرخ في المواقف المختلفة الذي يعبر عن شخصية حادة المزاج، وفي العنف الذي يمارس ضده، بحيث لم يعد دوره مقصوراً على إنتاج السخرية بقوله أو فعله، بل أيضاً بما يمارَس ضده من سخرية وعنف. ففي نقده للتأميم والتعاضد هجم عليه ثلاثة من الشبان الموعودين بالتسفير للعمل في أوروبا. ظلوا يعنّفونه دون أن يهبّ أحد لتخليصه، حتى مر أحد المجرمين المشهورين. غاظه ذلك فنهاهم عنه، وقال: هل سب لكم أمهاتكم؟ هل سب الجلالة؟ قالوا أعظم وأدهى، سب الدولة!».
والتناقض الذي تبنيه الرواية على شخصية المؤرخ الحزين، يأخذ بعداً ساخراً في موقفه من تنظيمات التطرف الديني والشيوعي، التي تقترب -بحسب الراوي- من الناس بقدر تضييق الدولة عليها، وتقترب من المتنفذين في الدولة بقدر نفور الناس منها. فعلى الرغم من قيام المؤرخ الحزين بالدفاع عنهم ضد الدولة، فقد كتب بعض الأحداث على باب مسكنه بالأسود القار «زنديق كافر» وكتب آخر بالأحمر القاني «دمه حلال» وأُلقِيت حجارة وقاذورات وجيف أمام داره... إلخ. وحين امتلأ بهم حبس النعجة، وانتشرت روائح تعذيب وتنكيل، وشاهد المؤرخ الحزين الاستئصال يبلغ مداه ورأى الفرح والشماتة في كثير من الوجوه، قال: «حاجة الدول لأنصارها لا تقل عن حاجتها لخصومها... لئن تشمتوا تندموا»!. وهذه مفارقة بين ضديته للقمع والاستئصال والترهيب وبين وقوعه ضحية له.
وتزداد سخرية الرواية، بحشدها لغات متعددة، واقتباسات لأمثال وأشعار، وحشد الأوصاف والملفوظات التي تحيل في مقامات مختلفة على سياقات جنسية وعدوانية، وسياقات نجاسة وتدنيس وحيوانية، خصوصاً في وصف استبداد السلطة بالمدينة، وأحياناً في ممارسات فعلية على سبيل السحق والتركيع كما هي ممارسات يونس بن غالمة وروائح الحبس. ويستخدم الوصف لغة كاريكاتورية ذات تضخيم ومبالغة، مثل التعبير عن انتفاخ الصدور فخراً بالمدينة. لكن وصف الروائح التعجيبي ميزة سخرية للرواية لا يمكن إغفالها، وينبع امتيازها من تكثير الأوصاف وتعدادها، ومن إطنابها وتكرارها وترادفها، ولنقف -مثلاً- على روائح خنادق المعاصر، فمنها «تنبعث روائح زخمة خبيثة حادة قاسية لزجة» وروائح حوانيت نسيج الحلفاء «عفنة نتنة جيفة كريهة تبعث على التقزز، تحدث الغثيان، تشق على الأنفس، تجعلها تصر على الأسنان»... إلخ وتضخيم النتونة الكريهة والمنفرة يصنع -للمفارقة- ألفة وجاذبية، فإذا ألِفَتْها الأنفس، واعتادت عليها، صارت تشتاق إليها وتفتقدها!.
وهذا التناقض بين قبح الروائح والاشتياق إليها، وسيلة لإنتاج السخرية والتعجيب، يترافق بين حين وآخر مع توليف جملة أوصاف لها مبعثرة، بما للبعثرة وجمع المتناقضات والمتباعدات من طاقة إنتاج السخرية والضحك الذي يقوم -بحسب برجسون- مقام التصحيح للسهو والشعور بمَكْنَنَة الحياة، ومصنفة في أنواع وصفها ومصادره، معنى وحساً وحركة وعمراً ومصدراً وانفعالاً، فروائح «وضيعة دنيئة نجسة» أو «مرحة غضوب لعوب مغناج ضحوك متنطعة متعجرفة مندفعة متأودة مكسال» أو «بكر عذرية الصبوة» «شابة فتية أنيقة رشيقة مرفّهة منعمة» و»مترهلة رطبة شحمة متهدلة» أو «لدنة ندية لزجة باردة غضة متوهجة» و «لطيفة ناعمة حالمة أخاذة ساحرة» و «خشنة ثقيلة فظة وقحة» و»حادة قاسية ضاغطة متعسفة قاهرة ظالمة ثقيلة خانقة زفرة دفرة دامعة باكية حارقة كاوية» أو «تتعكر تحتد تصطفق يركلونها بالأرجل يدفعونها بالمجامع ويشتمون، يتحاشونها، يهربون منها» وتجتمع في أحيان نقائض الوصف في مثل: غضوب لعوب، مرحة أسيانة، مندفعة محتدمة متأودة مكسال» و»لينة خفيفة رخية ثقيلة قوية عاصفة فظة حامضة مرة كاوية محرقة» و»بها حنق وفرح وانزعاج وقلق وسرور وانشراح وضيق واختناق».
ويأخذ وصف الروائح أشكالاً من التعجيب الخيالي مقترنة بالسرية والتشكل المادي والآثار السحرية. فروائح السوق -يقول الراوي- «تمتزج بالأصوات والألوان والغبار والهبوات يركب بعضها فوق بعض تختلط تصبح كثيفة ثقيلة خانقة يحركها المارة فتضطرب، تموج في الهواء، تعرج إلى السماء، تركد فيها بعيداً وتتهاوى راجعة إلى الأرض.. يُخوّض فيها الناس، يدفعونها أمامهم، يغرقون فيها، يرفع الواحد منهم رجلاً فتسيح به فيها رجل.. روائح السوق الأسبوعية هذه كانت، في مدينتنا، وراء جميع الوقائع والأحداث الكبيرة والصغيرة التي حصلت بها». ومثل ذلك بَرَكة روائح الجامع القديم، والتصاقها بالثياب واختراقها إلى الجلود والعظام، والأنس العجيب الذي تصنعه روائح الحُصُر.
إن بلاغة السخرية التي صنعتها الرواية تتضمن معاني حزينة، وتنتهي إليها، وهذا هو الهدف، فهي ليست فكاهة ولا تهدف إلى الإضحاك، وإن كان نتيجة تلقائية لتركيبها على المفارقة والتناقض. وقد أتاحت هذه السخرية الكشف عن التناقضات التي تعيشها المدينة، والصراع، والعنف، والعبثية. ورأينا مدينة لا تعيش الزمن ولا تصنعه، وإنما تعيش على حافته وهوامشه، وعلى رغم أن الرواية تحيل إشكالية المدينة على السلطة الزمنية التي ترث الاستبداد وتورثه، فإن ثقافة المدينة الهشة والمنقسمة بين التقليد والتطرف، جعلتها ألعوبة لا تقتات إلا على فرجة السياح عليها، وتفقد كل يوم رصيدها من الذاتية. وقد كانت صرخات المؤرخ الحزين وغضباته في أكثرها موجهةً لإيقاظ وعي الناس أكثر منها إلى الدولة المنهوبة في يد قلة من المتنفذين.
الرياض