سمعتُ أول مرة باسمه واسم والده - رحمهما الله - في مجالس العائلة؛ فقد كان ذكر والده يملأ التاريخ الشفوي للناس.. بوصفه واحداً من موطدي الحُكْم في البلاد بعد توحيدها على يد البطل العظيم عبدالعزيز آل سعود، وكان والده أميراً مهاباً وقوياً في الحق وفي تنفيذ الأحكام والضرب على أيدي البغاة وقطاع الطرق، كما كان كريماً، شهماً، مستقيماً، وقد عمل معه خلال إمارته للمدينة المنورة في الخمسينيات الهجرية عددٌ من رجال العائلة كالوالد والأعمام محمد وعبدالعزيز (وهما شاعران) وعبدالرحمن وهو مؤرخ للأنساب وصاحب كتاب (المنتخب)، وكان أهلنا يسكنون مع الأمير عبدالعزيز في بيته بالمدينة المنورة عندما كان أميرها؛ لمحبته وإكرامه لهم ووجود صلة نسب بين العائلتين؛ فهم ينحدرون سوياً من بني لام من قبيلة طيئ المعروفة.
أما الشيخ إبراهيم فقد رأيت صورته لأول مرة في جريدة (البلاد) التي تنشر أخباره أحياناً، وكان يشغل منصب وكيل إمارة منطقة مكة المكرمة بعد أن نقل إلى هذا المنصب من إمارة القنفذة على ساحل البحر الأحمر جنوبي جدة.
وقد رأيته لأول مرة في منزل عمي «محمد» بمكة المكرمة في نحو عام 1383هـ، ورأيت في وجهه علامات اللطف والتواضع، وكان مربوع القامة، وتبدو عليه الهيبة.
كان الشيخ إبراهيم - كما يسمَّى عند معارفه وأصدقائه - ودوداً وأبوياً.. ويتلطف أكثر من الصغار والشباب.. محباً للناس إلى درجة أنه يسعى لمعارفه وأصدقائه، فيطرق أبوابهم لزيارة مفاجئة قبل تطور الاتصالات الهاتفية.
وكنت في عام 1384هـ قد التحقتُ بكلية التربية بمكة أثناء عمله في إمارة مكة المكرمة، وأقف في الشارع المؤدي لريع الحجون في الصباح لركوب الحافلة.. وغالباً ما تمر سيارته الشيفروليه البيضاء، فيلمحني ويوقف السائق وينادي عليّ فأركب خلفه ثم ينزل في مقر الإمارة بالسقاف ويذهب بي السائق إلى مقر الكلية بالعزيزية، وكان معي دائماً ابن عمهم المرحوم سعد الصالح البراهيم.
ومن الصعب الكتابة عن رجل مثل الشيخ الأمير إبراهيم بن عبدالعزيز البراهيم؛ فقد كان رجلاً متعدد المواهب والصفات، ولكنه كان ذا وجه واحد، وعواطف متزنة، وعطاء نفسي لا ينتهي، كما كانت معرفته بالإدارة المحلية (للإمارات) معرفة خارقة، ولاسيما وقد ظل يمارس هذا النوع السلطوي قرابة نصف قرن، والغريب أنه كان يعمل بأعصاب وقلب بارد؛ فلا يبدو عليه الانفعال أو التوتر أو الإرهاق، وكان يدرك بفطنته وتجربته لبّ القضايا والمعاملات كافة بما فيها من مشاكل، ويتخذ فيها الإجراء السليم في زمن قياسي قصير، ولكنه كان غير متعجل أو عجول، وفيه أناة وتمهل، ولا أقول تردد.
وكان - رحمه الله - يصرف معظم وقته في العلاقات الاجتماعية والأسرية، كما كان مزواجاً وسعيداً على ما يبدو في حياته العامة والخاصة، وقد خالطته نحو عشرين سنة لم أره يوماً فيها منحرفاً في مزاجه أو في صحته إلا من بعض الزكام العابر؛ ما يدل على تمتعه بكمال الصحتين النفسية والجسمية، كما كان أكله معتدلاً، ويحب المشي والسفر والتنقل بين مناطق البلاد ثم إلى الخارج فيما بعد.
وقد توثقت علاقتي به - رحمه الله - في الطائف، وكان بيتي يقابل بيتهم في حي «قروي بالطائف»، وكنت أعمل مدرساً في التعليم الثانوي منذ عام 1388هـ؛ ما أتاح لي تدريس مئات الطلاب، ومنهم أبناؤه: سعود وفهد ومنصور الذين كانوا يتمتعون بأدب وحسن تربية، وبحكم فارق السن بيني وبين المرحوم فقد كنت بمثابة أحد أبنائه، مع أنه كان يدعوني دائماً «الأستاذ»، ولم أسمعه يقول اسمي مجرداً طيلة عشرتي الطويلة معه، كما كان يمزح ويتبسط معي، ويرتاح لوجودي قربه؛ ما شجعني على الذهاب إلى مجلسه بالطائف كل ليلة تقريباً.
هذا في الطائف، أما في مكة التي تركتها عام 1388هـ بعد أن أنهيت دراستي الجامعية في الكلية، فكنت أراه في بيوت أعمامي في حي العتيبية، وكان من عادته أن يزورهم مرة كل أسبوع بمبادرة شخصية منه بعد صلاة العصر - عادة - ويشرب القهوة والشاي معهم ثم ينصرف قبل أذان المغرب، وقد بنى لوالده مسجداً صغيراً بجوارهم.
ومرة واحدة ذهبت إليه في الإمارة في موضوع عام؛ فقد حدثت مشكلة لجارة لنا حبسها زوجها في بيت يقع خلفنا أياماً عدة.. وعرفت الوالدة بمشكلتها فذهبت إليه ومعي أحد الجيران شاهداً في استراحة أو حوش كبير كان يجلس فيه مع بعض أصحابه بأول العزيزية بعد المغرب، وكان معه الشيخ صقر العريفي - رحمه الله - وشرحت له المشكلة فطلب مني أن أكتبها وأعطيها له غداً في مكتبه بالإمارة، وهكذا كان، وفي خلال اليوم نفسه حلّ مشكلة هذه المرأة التعيسة التي لم تذق طعاماً أياماً عدة، وجوزي زوجها على فعلته الدنيئة بالسجن والعقاب الذي يستحقه، ولم أرهما في بيتهما بعد ذلك اليوم!!
في الطائف اتخذ «أبو عبدالعزيز» مقراً دائماً لأسرته، وكان لا يملك بيتاً؛ فاستأجر مجمعاً للفيلات في حي «قروي» الجميل الذي كنا نسكن فيه، وكان بيتي الذي بنيته في أواخر عام 1392هـ -1972م بجوارهم.
وبعد تركه - رحمه الله - مكة بعد عشر سنوات تقريباً من العمل وكيلاً لإمارتها نُقل إلى «أبها» وكيلاً لإمارة «عسير»، وترك عائلته الكبيرة في الطائف، وكان - رحمه الله - مزواجاً، بيد أن الزوجات الأساسيات (أمهات الأولاد) لم يكن يطلقهن إلى أن ترك قبل وفاته بعشر سنوات هذه العادة المحببة إليه؟! وقد سمعت من الأعمام أن والده كان يغبطه على قدرته على تعدد الزوجات والسيطرة عليهن وصبره على كثرة الأولاد؟!
ويبدو أن نجله (سعود) هو أكثر الأبناء شبهاً به في محبة الناس، والتواصل مع أصدقاء والده، والبر بأقاربه، وحب الرحلات البرية، والأسفار، وحسن الاستقبال.
وقد استمر المرحوم في إمارة منطقة عسير نحو عشر سنوات، وكان يحب المنطقة وأهلها، كما كان محبوباً في كل مكان يعمل فيه أو يسكنه؛ لأنه كان يتصف بالاستقامة والعدل والرفق إلى جانب اتصافه بالطيبة والذكاء وطول البال ومحبة الناس، وكنت أجتمع به كلما جاء إلى الطائف ونسامره في بيته إلى ما بعد منتصف الليل في كل ليلة تقريباً، وكان زوّاره كثيرين يأتون ويذهبون؛ فقد كان بيته وقلبه مفتوحَيْن للجميع، كما كان يلبي الدعوات بصدر رحب، وتواضع جمّ.
كان - رحمه الله - يضع كل إنسان في مكانه الطبيعي، ويعطيه حجمه من المنزلة والإكرام دون أن يبدو عليه ذلك أو يشعر الطرف الآخر به، كما أنه لا يعطي وجهاً للسخفاء أو الطمّاعين والثقلاء.
كما كان - رحمه الله - معتدلاً في كل شيء، وأفكاره محافظة شأن معظم جيله، ولكنه كان يقرأ الصحف وبعض المجلات كمجلة (المختار) وهي معرّبة كما هو معروف عن «ريدردايجست»، وكانت في وقتها مجلة المجلات.
وعندما التقيته في تونس قبل وفاته بنحو ستة أشهر لم أكن أظن أن ذلك سوف يكون لقاءنا الأخير؛ فقد كان رغم العملية الجراحية التي أجراها قبل فترة نشيطاً ومتبسطاً، وقد سكن في «فيلا» بنزل «أبونواس» الجميل على «خليج قمرت» السياحي خارج العاصمة، وقد لازمته أياماً عدة، لكنني كنت أسكن في فندقي، وتمشينا معاً، وكان معه حشد متنوع من الناس، فذهبنا إلى «غار الملح» وغيره، وصورنا هناك، وقد عرض عليّ أن أذهب إلى المغرب معه فاعتذرت له.
وعندما امتلأت الصحف والمجلات المحلية بتأبينه أسابيع عدة، كان زخم العاطفة والمحبة اللتين كان يتمتع بهما لدى محبيه وعارفيه أشبه بتيار جارف، ولم أكتب قصيدتي في الراحل العزيز إلا بعد أن مزقتها مرات عدة.. وظلت حبيسة لديّ بعض الوقت، ولكنها خرجت تعبيراً متكاملاً عن كل ما أحلمه له من الحب والصداقة له حياً، ولذكراه العطرة ميتاً. رحمه الله وغفر له.
جدة