كعادة المجلة الثقافية في تنوع المشارب وتقديم الوجبات البصرية المتعددة المذاق يسرنا اليوم أن نتوقف في محطة عربية كان فيها الفنان الدكتور محمود حمدو، من سوريا، مستضيفا لنا وليس ضيفا، قدمه لنا الزميل محمد شبيب باحترافية الفنان المبدع والمتخصص في الفن التشكيلي والمحاور الذي كشف لنا في حواره هذا مع الفنان حمدو قدرته على استنباط أبعاد تجربة ضيفنا، جائلا في أعماق وجدانه المفعم بالإبداع والخبرة والتاريخ، والتي بدأ الزميل محمد شبيب حواره مع الفنان الدكتور محمود بمقدمة رائعة يستحقها الضيف قائلا:
وراء العديد من المحاولات الفنية المشحونة برغبة تقارب درجة التبتل في تغيير الواقع، ثمة شخصية لا تحتمل سوى القليل من التردد في الإعلان أو الإفصاح أو التعبير عن مكنوناتها الداخلية، إن بالكلمة أو الإزميل أو سكين التصوير، فكل هذه الأدوات يسخرها الفنان محمود حمدو لتجل واحد، يحمل معناً وصبغة موحدة سواء أكان العمل منحوتة أو لوحة أو نصاً، فلن نلمس فرقاً كبيراً في تجربته الفنية بين ضربة الإزميل، أو حركة سكين التصوير، أو المفردة اللغوية التي يستخدمها في سياق تسويغ أهداف وأبعاد تجربته الإبداعية والإنسانية. الأمر الذي لا يتيح للمتلقي فرصة للاجتهاد في تأويل أو تحليل البناءات الفكرية والفلسفية والجمالية التي يستقي منها موضوعاته، فهو يطرح وبشكل جلي ومباشر ما يريده وما يعلنه وما يقرره دون أي تحريف أو تحوير أو تورية، حتى أنك لتجد في هذا الأسلوب شيئاً صادما أو مفاجئاً، لكنك لن تلبث أن تكتشف أن وراء هذه الصراحة والجرأة والمباشرة وضوح سريرة وصفاء ذهن قلما نجده لدى الفنان في هذا الزمن الزاخر بالنظريات والتيارات الجمالية المختلفة.
لقد آثر الفنان حمدو أن ينكفئ قليلاً لينسج له عالما شفافا يخيل للمرء أنه يخترق في كل يوم بل في كل ساعة. لكن الواقع غير ذلك، فهو يحافظ في الغالب وبصورة مدهشة على مسافة واضحة بين الواقع وبين عالمه الداخلي الذي- فيما يبدو- يجهد نفسه للحؤول دون تشويشه من قبل هذا الواقع المحتدم بالمتناقضات والاستهلاك والتشيئ.
من هنا تأتي تجربة هذا الفنان كصدى لشخصيته الفريدة، حيث يجعل مشروعية اللوحة مرهونة بأدائها الفني قبل أي بعد آخر، فيدع المتلقي واقفاً عند حدود سطح اللوحة (وهي ذات بعدين) ليقيم حواراً تشكيليا صرفا بعيدا عن التأويل، وهذا ينسحب على أعماله النحتية أيضا، وذلك من خلال تركيزه على الجانب التشكيلي في المقام الأول. ولأن التأويل - لا سيما في مثل هذه التجارب - قد ينطوي على قراءات ربما تفقدها الهشاشة قيمتها النقدية، أو ربما تسيء إلى العمل الفني فإنه قد يكون من الأجدى محاورة الفنان للولوج إلى عالمه الفني الخاص، بغية استجلاء أبعاد ومحاور تجربته الفنية.
أين يجد النحات والمصور د.محمود حمدو نفسه أولاً كنحات أم كمصور؟
- ليس للفنان تصنيف لأن الفن في النهاية طاقة إبداعية مصحوبة بإمكانيات تقنية معينة تؤدي إلى إنتاج عمل فني. فالنحات يمكن أن يكون مصوراً والعكس صحيح، كما يمكن أن يوفق بين الاثنين فالمشكلة تكمن فقط في التحكم بالمخرجات التقنية لذلك التصنيف، صحيح أنه يمكن أن يكون هناك مقارنة من ناحية أن الأدوات المستخدمة في الوصول لكل من التصوير والنحت مختلفة قليلاً من حيث الجهد وعناصر الإبداع لكن في النهاية الطاقة الإبداعية هي التي تأتي بالنتيجة المرجوة، ثم أن أغلب الفنانين في العصور الماضية كانوا يتقنون كلتا الخاصتين لكن الفنان غالباً ما تشده النزعات الإبداعية عنده لأن يميل للنحت أو التصوير وذلك لاعتقاده، إن هذا أو ذاك قد يكون الطريق الذي يستطيع أن يعبر من خلاله أكثر عما يريد أن يخاطب به نفسه أو الآخرين، في الحقيقة أنا أميل لتسمية نفسي بنحات، ذلك أنه يمكنني أن أعبر أكثر عن هذا الفن وربما يجد الكثير في ذلك نوع من الضحك لكني أحب الدوران كثيراً حول العمل أثناء تنفيذه بمعنى أن التمثال يفرض عليك الحركة بشكل دائري، ذلك أنه يمتلك وجوه متعددة.
عرضك في الغالب كل ما هو نمطي أو قيمي، وذهابك بعيداً في آرائك وأفكارك وفي مواضيع أعمالك بجرأة لافتة، هل هو البحث عن المغايرة، أم هي حالة تمرد على الواقع؟
- القيم والأخلاق والنمطية.. هي مفرزات تؤطر مجتمعات بني البشر ومن المتعارف أنه كلما كنت متفقاً مع هذه المعطيات أو مطبقاً لها كنت فرداً إيجابياً بنظر ذلك المجتمع، وأنه كلما ابتعدت عنها أو حاولت قراءتها بشكل مختلف أصبحت فرداً سلبياً في التصنيف، لكن كيف لفكرة أن تكون فنيّة إذا جاءت مطابقة لأفكار سواد الناس في هذه الحالة تكون تأكيد على اتفاق، غير أن خصوصية الرؤية الفنية هي الفردية، في الحقيقة الفنان لا يتمرد ولا يبحث عما هو مغاير، لكنه يقرأ الواقع بطريقة مختلفة عن المجموع الذي يرفض تلك القراءة فيصنفها تحت كلمة تمرد أو جرأة.
كيف يمكنك أن تجلو لنا أبعاد ملامح التأثيرات الغربية في أعمالك سواء النحتية أو التصويرية من خلال المنحى التجريدي؟
- إن التعلم ليس ما تقرأه في كتاب بل ما تعيشه في الحياة لأن ما تقرأه هو شيء مجرد يمكن لكل على حده أن يجد فيه تفسيراً يناسبه لكنه يبقى مؤطر الأبعاد يعبر عنه بشكل مجرد آخر لكنك عندما تعيش في مكان فإنك باللاشعور تكتشف بعد فترة أن الكثير من المعطيات الحياتية التي كنت تمارسها قد تغيرت وأن نظرتك وفهمك للكثير من الأشياء قد اختلفت وهنا تبدأ بقراءة مختلفة لما تعتقد أنه مناسب أكثر لما قد يبدو نتاجاً خاصاً بك، الحقيقة أن تدرس وتعيش لمدة زمنية غير قليلة في بلد غربي لابد وأن يؤثر بك سلباً وإيجاباً ويترك عليك الكثير من آراءه، وأن تنتقل من بلد ذي ثقافة ناشئة إلى بلد كفرنسا (ينشر في اختصاصك الدقيق في اليوم الواحد ما لو تفرغت له أسبوعاً كاملاً فلن تستطيع قراءة ما كتب) لابد وأن يترك فيك ذلك التأثير ثم أنك تبحث دائماً عن هذا الذي يمكن أن يفهم اللغة التي تتكلم بها.
في مقابل ذلك «أي التأثير الغربي» ماالذي أعطتك إياه البيئة المحلية من مفردات وتأثيرات؟ وكيف لنا كمتلقين تلمس هذه التأثيرات؟
- كي أكون صادقاً مع نفسي، نحن ندرس الفن في كلية الفنون بعد الشهادة الثانوية أي بعمر ال 19 أي يبدأ إحساسنا بالموجودات أو المحفزات الفنية في هذه السن والتي إذا ما قارناها مع أي طالب يدرس في كلية الفنون في الدول الغربية فإن مفرداته الفنية تبدأ في الدخول إلى ذاكرته بسن الـ 5 سنوات.
ما أريد أن أقوله إنها تدخل في مكوناته الفكرية بشكل تلقائي حيث تكون في النهاية ناتجاً طبيعياً للغة التي سوف يقدمها لنفسه وللآخرين لاحقاً بينما تكون بالنسبة لنا لصاقات نحاول أن نوفق فيما بينها لأننا نتعلم في مرحلة عمرية مفردات غير مشفوعة بحياة يومية موافقة.
أتكلم عن نفسي، أنا أفتقد لغة التفاعل مع البيئة المحلية لأن المفردات المكتسبة هي غربية فأنا مثلاً أحب نحت ورسم الجسد يمكنك أن تعمل لكنك لا يمكن أن تعرض هذا الناتج في مجتمعك لأنه لا يتقبل تلك المعطيات فأنا كمن يعمل منتجاً كي يباع في بلد آخر (أنت لا يمكنك أن تتفاعل مع البيئة إلا إذا قبلت أن تذوب فيها).
أين يقف الفنان العربي مما يجري من تحولات متسارعة في مفهوم الفن الحديث؟ وكيف يمكن مقارنته بالفنان الغربي في ضوء المعطيات المتوفرة لكل منهما؟
- بصراحة من الصعب الجواب بصدق على هذا السؤال وإلا سوف يدخل ضمن نطاق المزاودة والمراوغة لإثبات أن الفنان العربي يساوي نظيره في البلاد الغربية، المشكلة تكمن في العقلية.
المجتمع العربي بشكل عام لا يتحمل وجود أفراد لأنه سوف يطالب ذلك الفرد بأن يكون مجتمعاً ولا يمكن لفرد أن يحمل على كاهله أو أن يكون مجتمعاً لأنك ما أن تطلب التمييز حتى تصبح في عداد الأعداء ويجب استلاب نجاحك، بينما في الدول الغربية يبحث المجتمع عن الفرد المتميز ليقدم له كل الخدمات واللوازم حتى يسير إلى الأمام حتى يتقدم بذلك المجتمع خطوة. هذه هي مشكلة الفنان العربي كما أعتقد . يفرضون عليه أن يكون (دون كيشوت) مجرداً حتى من سيفه وحصانه، ويطلبون منه أن يأتي بانتصار.
ما دور المؤسسات في تطور الفن التشكيلي في البلدان العربية وما إيجابيات او سلبيات تحول بعضها نحو الاستثمار في العمل الفني التشكيلي، بتبنيها تجارب معينة أو أفراداً معينين؟
- صحيح، منذ فترة لاحظنا اهتماماً متزايدا في اقتناء اللوحات الفنية وهذا شيء جديد وجيد رغم كل ما يقال عنه من تجارة وتبييض الأموال أو ما إلى ذلك أية خطوة جديدة تقدم عليها سوف يكون فيها سلبيات وإيجابيات الإيجابية هي: أن الفنان بدأ يشعر أن يمكن أن يكون هنالك مردود مادي لما يقدم من عمل، ومن ناحية أخرى بدأ يحفز الفنانين الشباب على امتلاك الأمل بالنجاح بعد ما كانوا يروا أساتذتهم يغرقون في بحر من الإخفاق المفروض عليهم، أما الصالات فلا يمكن أن نقيّم دورها بالايجابي أو السلبي لأن أصحاب هذه الصالات بالنهاية هم يروجون لتجارة ومن حقهم البحث عن الربح لكن المشكلة تكمن في دور المؤسسات التي من مهمتها تقويم أو العمل على وضع خطة واضحة لما نريد لذلك الفن، فالمؤسسات لاوجود لها إلا في مجال الاستعراض حيث لاتمتلك بنية نقدية وتكتفي بامتلاك خاصية إنشائية.
إلى أين يسير - حسب رأيك - الفن المعاصر؟ وماهي الخيارات المتاحة حالياً بعد ان فقد الفن الحد الأدنى من المعايير والضوابط الفنية والنقدية؟
- لا يجب أن يُقرأ الفن في هذه المرحلة المعاصرة كما كان يقرأ في الماضي، لأن مجالات الإبداع في حاله تكاثر مستمر ولم يعد الفن مقتصراً على اللوحة والتمثال. الحياة الآن هي حالة مستمرة من الحركة حتى عندما تكون في حالة ثبات فإنك متحرك بالمجموع فإعطاء جواب محدد في رأيي فيه الكثير من قصر النظر لكن لا يعني هذا الكلام أن اللوحة الفنية أو التمثال قد فقد تلك القيمة الخاصة به بل على العكس مازال يحتفظ بتلك القيمة أحيانا في حالة ازدياد، وأحيانا ذلك يعود لأن الفن متعلق بالفكر والفكر لا يمكن إجباره على تقبل معطيات الزمن الحاضر لأنه يمتلك حرية الخيار وطالما أن حرية الفكر موجودة في مساحة وجود الفن بكافة موجوداته وطرق الإبداع والمجالات المختلفة يبقى محتفظاً بكامل وجوده لأن وجوده ينتمي إلى الزمن ككل وليس للحاضر فقط.
monif@hotmail.com