كان العسكري الذي يؤدي نوبته الليلية، ويتجول في المنطقة التي نيطت به حراستها، يمشي بخيلاء تنم عن نشاط وحماس لا تكلف فيهما، لا سيما عدم وجود أي احتمال لمرور أحد من رؤسائه أو مفتشي منطقته في تلك الساعة المتأخرة، أو في ذلك الطقس البارد الماطر، بل كانت مشيته تلك والحركات التي يقوم بها، مردها إلى طبع متأصل، وإخلاص للواجب لا أثر فيه للتصنع أو المباهاة!
بدأت أحداث قصتنا هذه قرابة الساعة العاشرة من تلك الليلة حينما كان الناس آنذاك يغذون السير إلى بيوتهم إتقاء المطر الوشيك والطقس البارد، فهدأت المدينة، وخلت الشوارع إلا من هذا العسكري الذي راح يتفقد المحال والمخازن مختبراً أقفالها، ثم يتلفت يمنة ويسرة، وهراوته في يده يلاعبها في حركات فنية لا يجيدها سواه، وأحياناً كان يقف لحظة بهيئته الحازمة، وكبريائه اللطيف، لينظر عبر الشارع الهادئ بعين يقظة حذرة.. كل ذلك جعل منه صورة حية وصادقة لرجل الأمن النشيط!
كان من عادة أصحاب المخازن والمحال التجارية في هذه المنطقة من المدينة التوقف عن العمل في ساعة مبكرة من الليل، ومع ذلك فلا يخلو الشارع من أضواء هنا أو هناك صادرة إما من حانوت صغير أو مطعم ليلي، غير أن معظم المخازن الكبيرة والمحال التجارية قد أغلقت أبوابها منذ وقت ليس بالقصير!
وفجأة، يتمهل العسكري في مشيته ويبطئ من خطواته، نراه يسرع في عبور الشارع العام إلى الجانب الآخر منه، فقد لاحظ عن بعد شخصاً واقفاً عند مدخل أحد المخازن الكبيرة، ورأى في فمه سيجاراً لم يشعله بعد، فتقدم نحوه في ريبة، وما إن اقترب منه حتى بادره الرجل الواقف يطمئنه، قائلاً:
لا تخش شيئاً أيها المأمور.. إنني في انتظار صديق لا غير.. إنه موعد اتفقنا، هو وأنا، على الوفاء به قبل عشرين عاماً من اليوم! يبدو لك هذا مضحكاً، أليس كذلك؟!.. حسناً، سوف أشرح لك كل شيء إذا رغبت في أن تطمئن إليَّ، وتتأكد من صدق قولي.. في ذلك الحين، كان مكان هذا المخزن مطعم اسمه (مطعم جو بريدي) الكبير!
قال العسكري:
هذا صحيح.. لقد كان هنا قبل خمس سنوات فقط! وأشعل الرجل سيجاره الفاخر، فرأى العسكري على نور عود الثقاب وجهه بوضوح، كان شاحب الوجه، ذا فكين عريضين وعينين حادتين، وندب أبيض لجرح قديم عند حاجبه الأيمن، وفي ربطة العنق التي يرتديها مشبك ماسي كبير موضوع بطريقة خاطئة!
سحب الرجل الواقف نفساً عميقاً من سيجاره، ثم استمر يقول: منذ عشرين عاماً، وفي مثل هذه الليلة، تناولت مع صديقي (جيمي) طعام العشاء في هذا المطعم.. كان (جيمي) مثال الصديق الصدوق.. لقد نشأنا هنا في (نيويورك)، وترعرعنا معاً كأخوين.. كنت حينذاك في الثامنة عشر، أما (جيمي) فقد كان في العشرين، وفي الصباح التالي لتلك الليلة كنت قد عزمت على مغادرة المدينة قاصداً جهة الغرب سعياً وراء الرزق.. حاولت كثيراً أن أقنع (جيمي) بمصاحبتي، ولكنه رفض بشدة، لأنه لا يريد مغادرة (نيويورك) التي يحبها ويعتقد أنها المكان الوحيد على الأرض.. حسناً.. لقد تعاهدنا تلك الليلة على أن نتقابل مرة أخرى بعد عشرين عاماً تماماً، مهما كانت الأحوال، ومهما باعدت بيننا المسافات.. وعزم كلانا على أن يسعى وراء حظه أثناء هذه المدة، ولا يهم بعد ذلك ما سوف تكون عليه النتيجة!
قال العسكري معلقاً: سوف يكون لقاؤكما ممتعاً للغاية بعد هذه السنين الطويلة.. ولكن قل لي: أولم تسمع شيئاً عن صاحبك طوال هذه المدة؟!
قال الرجل: بلى.. لقد تراسلنا بعض الوقت.. ولكن بعد سنة أو سنتين لم يعد أحدنا يعرف شيئاً عن الآخر.. ولا يخفاك أن( الغرب) واسع الأرجاء، خصوصاً وأنني بقيت أتجول في أنحائه بهمة ونشاط.. ولكنني واثق من أن (جيمي) سوف يفي بوعده، إن كان على قيد الحياة.. إنه صديقي وأنا أعرفه.. لقد قطعت ألف ميل لأجيء إلى هنا، وأقف في هذا المكان، ولا يهم كل ذلك ما دام صديقي الطيب سوف يحضر!!
وأخرج الرجل ساعة ثمينة ذات غطاء مرصع بقطع صغيرة من الماس، ونظر فيها قائلاً: العاشرة إلا ثلاث دقائق.. كانت العاشرة تماماً عندما افترقنا هنا منذ عشرين عاماً!..
قال له العسكري:
يبدو أن الحظ كان حليفك في (الغرب)، أليس كذلك؟!
قال (بوب):
هذا صحيح.. وأرجو أن يكون (جيمي) قد أصاب من النجاح نصف ما أصبت.. إنه من ذلك الطراز الذي يظل يكدح طوال اليوم ليسد رمقه.. أما أنا فقد تجولت مع بعض الأذكياء من زملائي حتى استطعت أن أجمع ثروتي.. إن الإنسان يضع نفسه في حفرة ضيقة إن هو بقي في (نيويورك)، وما عليه إلا أن يغادرها إن أراد أن يضع حداً لشقائه وتعاسته!
ولاعب العسكري هراوته.. ثم سار خطوة أو خطوتين، وهو يقول:
إنني ذاهب.. أرجو أن يأتيك صديقك.. ولكن هل تنوي أن تنتظره طويلاً؟
أجابه (بوب): كلا.. سوف أمهله نصف ساعة.. فإن كان حياً فسوف يأتي.. مع السلامة أيها المأمور!
طابت ليلتك يا سيدي!
قالها العسكري، وهو يواصل سيره متفقداً الأبواب، ومختبراً أقفالها وهو يمر بها!
وبدأت زخات من رذاذ المطر تنهمر، وهبت ريح باردة، فأسرع المارة على قلة عددهم يحثون الخطى في صمت كئيب، وقد انكمشوا في معاطفهم الطويلة وأيديهم في جيوبها، وعند باب المخزن الكبير، ما يزال الرجل القادم من (الغرب) والذي قطع مسافة ألف ميل وفاء لوعد يكاد يكون مستحيل التحقيق، في انتظار صديقه!
ومضت عشرون دقيقة، فإذا به يرى شبح شخص طويل القامة متجهاً نحوه، وهو يرتدي معطفاً طويلاً قلب ياقته حتى غطت رقبته وأذنيه، وما إن اقترب منه القادم حتى بادره قائلاً:أهذا هو أنت يا (بوب)؟!
وهتف (بوب) بلهفة:من؟! (جيمي)؟!
ونظر القادم إلى وجه (بوب)، قائلاً:
يا إلهي.. إنه هو بلحمه ودمه!
ثم أمسك بيدي (بوب) كلتيهما، وهو يقول: كنت واثقاً من أنني سأجدك ما دمت على قيد الحياة.. إن عشرين سنة مدة طويلة حقاً.. لقد اختفى المطعم القديم يا (بوب).. تمنيت لو أنه بقي مكانه لكنا تناولنا عشاء آخر.. ولكن قل لي: كيف كانت الأحوال معك هناك في (الغرب) يا صديقي؟!
أجابه (بوب): عال جداً.. لقد حصلت على كل ما كنت أتمناه.. ولكن يبدو لي أنك تغيرت قليلاً.. فقد كنت أتصور بأنك أقصر مما أنت عليه الآن!!
أجابه صاحبه: أوه.. لا تقلق.. لقد زاد طولي قليلاً بعد أن تجاوزت العشرين!
ثم سأله(بوب): وماذا عن عملك في (نيويورك) يا (جيمي)؟!
أجابه: لابأس.. فلدي وظيفة في إحدى دوائر المدينة.. والآن هيا بنا.. سنذهب إلى مكان أعرفه، وهناك نستطيع أن نتجاذب أطراف الحديث عن ذكريات الماضي!!
وسار الرجلان جنباً إلى جنب، وذراعاً بذراع، وانطلق (بوب) الذي أبطره الغنى يتحدث عن نفسه، ويحكي لصاحبه ما جرى له، بينما كان الآخر يصغي إليه باهتمام لا يخلو من متعة وهو منكمش في معطفه الطويل الذي أخفاه من رأسه حتى قدميه!!
ثم وصلا إلى بقعة مضيئة من الشارع، فالتفت كل منهما إلى صاحبه متلهفاً لرؤية وجهه، ولكن (بوب) توقف فجأة، وسحب ذراعه قائلاً:
ماذا؟! أنت لست (جيمي). عشرون عاماً مدة طويلة.. هذا صحيح.. ولكنها ليست كافية لتغيير أنف إنسان من أقنى إلى أفطس!!
فرد عليه الرجل في هدوء: ولكنها قد تكفي لتغيير إنسان صالح إلى آخر مجرم!
وسكت لحظة، ثم أردف يقول:
لقد كنت تحت الاعتقال منذ عشر دقائق يا (سلكي بوب)، إن (شيكاغو) عرفت بمجيئك إلى هنا، فأبرقت تخبرنا بقدموك، وتطلب إلقاء القبض عليك.. سوف تصحبني بسلام.. أليس كذلك؟!.. هذا أحسن..والآن، وقبل أن أذهب بك إلى محطة القطار، خذ.. هذه رسالة طلبوا مني إعطاءها لك.. اقرأها هنا عند النافذة.. وبسرعة!!
وفتح رجل (شيكاغو) الورقة الصغيرة بيد ثابتة أول الأمر، وبدأ في قراءتها، ولكن يده صارت ترتعش وهو يأتي إلى نهايتها.. كانت مجرد رسالة قصيرة هذا نصها:
(بوب!.. لقد توجهت إلى المكان الذي اتفقنا على اللقاء عنده في الوقت المحدد.. وعندما اشتعلت عود الثقاب، رأيت على ضوئه وجه مجرم تطارده (شيكاغو)، فلم أشأ إلقاء القبض عليك بنفسي.. لذا فقد عدت وأمرت أحد رجالي باعتقالك!!).
التوقيع (جيمي)
رئيس شرطة المدينة
- الرياض