(لبعض الذكريات قوة الحقيقة المعاشة، وهي أكثر واقعية من كل ما يمكن أن يحدث لنا ثانية).
ويلا كاثر
مثل طلق ناري تنفجر فجأة ودون سابق إنذار لتعيد إلينا أماكن وأشخاصا كنا قد نسيناهم أو على الأقل نحاول نسيانهم..
مثل كأس زجاجي يفلت من يد طفل فينكسر ليوقظنا من غفلتنا..
تأتي الذكريات أحيانا كحلم مزعج نصحو منه ونحن نبكي لأننا نفتقدهم..
وأحيانا كحلم وردي نستيقظ منه ونحمد الله لكونهم غادرونا لنعيش باطمئنان بعدهم..
لا يوجد في الحياة إنسان بلا ذاكرة كل منا يملك ذاكرة تتبعثر فيها الأشياء وفي كل زاوية من زواياها حزن مندس أو فرح مختبئ.. وسيثير شخص ما أو مكان ما ما كَمُن منها وصَمَت مهما حاول الإنسان الهرب منها أو نسيانها.
من وجهة نظري الشخصية أصنف الذاكرة إلى ذاكرة لا مبالية تغفر وتنسى لتنعم بالراحة أو قاسية يستغلق عليها النسيان و الغفران أو بين الاثنتين.
أحيانا كبشر نجوع إلى الحب وإلى الحنان وإلى الفرح فنقضم من ذاكرتنا ما يسد رمقنا وحاجتنا ويشفي غليل ألمنا، وأحيانا تنقم منا الذاكرة لتنغص علينا كل لحظاتنا الجميلة..
الذاكرة كصندوق فاكهة يحمل النضر والفاسد نحمل ذلك الصندوق ونمضي وربما فتحنا صندوقنا لشخص نصادفه ونرتاح إليه فيلتقط الفاسد منها فتتألق ذاكرتنا ويمنحنا ذلك الشخص جميلا نظل نحمله إليه طوال حياتنا، أو يسعى لإفساد كل جميل فيعم الألم داخلها، أو يكون ممن هم زئبقيو المزاج يصلحون متى ما أرادوا ويفسدون دون سبب يذكر. بالنسبة لي أحاول جاهدة أن أمحو كل ذكرى سيئة مرت بي كي تلتئم جروحي، بيد أن هناك ذكريات من نوع آخر فهي مستعصية على النسيان، جروحها تنزف لاتكل ولا تمل..
من يكنس ذاكرته وينظفها من كل مالا يروقه؟! من يملك تلك القدرة الخارقة على اقتلاع وتد وجع انغرس في ذاكرته؟! من يستطيع ثقب ذاكرته ورمي كل ما بها في سلة المهملات؟! سأجيبكم باختصار: لا أحد.
لأن قوة الذكريات تفوقنا ولا نستطيع مقاومتها مهما كابرنا.
أحيانا تمر بنا لحظات نجهل حقاً ما يدور بداخلنا رغم أننا نمتلك ذلك الصندوق المسمى بالذاكرة فيحدث صدام شديد بين الذاكرة وعدوها اللدود العقل المتزن الواعي فتكون النتيجة إما لصالح هذا أو ذاك وذلك يختلف تبعا لطبيعة الشخص من حيث انسياقه وراء عاطفته أو استجابته لنداء عقله.
أفكر أحيانا فيما لو استعرت ذاكرة جنين وُضع للتو هل ستكون بيضاء نظيفة خالية من كل ما يشوبها أم أن ثمة ذكريات عاشها الجنين في رحم أمه لأن فترة التسعة أشهر التي مكثها ليست بالهينة فالذاكرة تخزن في اليوم عشرات المواقف.
ونظل نرمي الذكريات بسرية وصمت على أفواه جروحنا المتقرحة كما يُرمى اللقطاء على أبواب الليل فيُسلبون فراشات الفرح وعصافير البراءة، ولا سبيل للسهو حتى لو تظاهرنا به فالجرح طري ودمه غزير. وتظل الذكريات سيلا تنثال منه شخصيات بعضها منحتنا الفرح والأخرى لم تترك سوى الوجع، ونحن بين هذه وتلك ممتنون وناقمون.