ما زال للخميس حضورٌ خاصٌ طازجٌ منعشٌ كالرغيف الساخن، والتمر، والسمن الحرّ، والبن المحموس، والقهوة العربية والهال، والصبح الطريّ، وركض الأطفال، ووجوه الأحباب، ونظراتهم الحانية.
فالخميس مسرحٌ ومشهدٌ، وليس بمجرد يومٍ آخر عبَر، والغريب أن ذاكرتنا لا تتذكر السبت الماضي، أو الأحد الماضي بشكل عام، لكنها غالباً ما تتذكر أحداث الخميس الماضي، والجمعة الماضية!!
والخميس كائنٌ حيويٌّ بالفطرة، نشيطُ لا يحب الاتكاء، ولا يفضل القراءة من النت، فهو محب لرائحة الأشياء الأولى، كما أنه محب للحركة والاكتشاف، فهنالك طاقة غريبة في صباح الخميس، وفرح غامر، ورغبة في الخروج والانطلاق، وأنا أشعر مثله أنه من الأجمل أن تبحث عن الصحف في الأسواق، لا أن تأتي إليك، فهنالك متعة في شراء المطبوعات الورقية والتأمل في المجلات، والجرائد، والصفحات التي يقلبها الناس على عجل، وهي غالباً ما تكون رياضية، أو شعبية، المهم أنني آخذ مما آخذ هذه المجلة الثقافية إلى ركن هادئ، وأقلّبها كالسكر مع فنجان قهوة، ومما يسرق نظري فيها زاوية «مداخلات لغوية» للعالم باللغة بحق، الأديب القدير أبي أوس الدكتور إبراهيم الشمسان، وهي رغم علميتها ودقتها، والزاد الذي تمنحني إياه، إلا أنها غالباً ما تجعلني أبتسم من «القَوقَلة» إلى «الشبّيحة»، بل إنها تشعرني بسعادة حقيقية، فهي عميقة وسهلة ومرنة وخفيفة ظل، تناسب حالتي المتفائلة المنطلقة كل خميس.
أما ليل الخميس فهو عيدٌ ونشيدٌ وقصيد. والحقيقة أنني كنت، قبل أسبوعين، أتأمل في جمال هذا اليوم، وفي مفردة خميس تحديداً، وأقلب الذاكرة والمعجم، ولعل أستاذنا الشمسان يعينني في ذلك، وقد كان أول ما تبادر إلى ذهني أن الخميس هو الجيش، وذكرت في الحال أجمل شعر ووصف للجيش/ الخميس لأبي الطيّب الكنديّ من قصيدته ذائعة الصيت في مدح سيف الدولة الحمدانيّ:
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ
وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وهنا جمال الخميس:
إذا بَرَقُوا لم تُعْرَفِ البِيضُ منهُمُ
ثِيابُهُمُ من مِثْلِها وَالعَمَائِمُ
خميسٌ بشرْقِ الأرْضِ وَالغرْبِ زَحْفُهُ
وَفي أُذُنِ الجَوْزَاءِ منهُ زَمَازِمُ
تَجَمّعَ فيهِ كلُّ لِسْنٍ وَأُمّةٍ
َمَا يُفْهِمُ الحُدّاثَ إلاّ الترَاجِمُ.
وقد يكون الخميس الجيش المكون من خمس فرَقٍ بشكل خاص.
وفي المبرد: الخميس: الجيش، وكذلك قال ربيئة أهل خيبر، لما أطلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم: محمد والخميس، أي والجيش.
ومن يلتحق بخميس المسلمين يبغي إحدى الحسنيين: النصر والمجد، أو الشهادة، وفي كل منهما منزلة في السماء.
وحسب الحديث فإن الله سبحانه وتعالى قد خلق السماء الخميس:
(حديث مرفوع) أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيُّ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْحَافِظُ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هَنَّاءُ بْنُ السُّرِّيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ الْبَقَّالُ ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ الْيَهُودَ أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَتْ عَنْ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَقَالَ: « خَلَقَ اللَّهُ الأَرْضَ يَوْمَ الأَحَدِ وَالاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْمَنَافِعِ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ الشَّجَرَ وَالْمَاءَ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ السَّمَاءَ ، وَخَلَقَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ النُّجُومَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، « قَالَتِ الْيَهُودُ: ثُمَّ مَاذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: « ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ «، قَالُوا: قَدْ أَصَبْتَ لَوْ تَمَمْتَ ثُمَّ اسْتَرَاحَ، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضَبًا شَدِيدًا، فَنَزَلَتْ: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ. فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ) سورة ق آية (38-39).
ومن المصادفة أنْ نجد أنّ معنى الخميس: Thursday في الإنجليزية له علاقة وثيقة بالسماء: سواء أكان يوم الرعد في الانجليزية القديمة:
Old English thunresd?g «thunder›s day».
أو المشتري أكبر الكواكب، و « خامسها « بعداً عن الشمس، أو الجنّة حسب الجذور اللاتينية والإغريقية. ولعلنا من هذه الصلة المتكررة بين الخميس والسماء، نفهم سرّ تطلعنا وتوقنا كلّ خميس لكلّ عالٍ جميلٍ أنيس، مشرقٍ كالسماء بشمسها، أو بكواكبها ونجومها، مؤمنين أنّ الأيام كلها لله، يعز فيها من يشاء، ويذل من يشاء، ويسعد من يشاء، ويشقي من يشاء. جعل الله أيامنا كلها أيامَ خيرٍ وبركة وفأل وحيوية ونشاط.
http://mjharbi.com/
* الرياض