انعقد في العاصمة المغربية، الرباط، مهرجان سينما المؤلف للفترة من 27 - 7 وحتى 2-8 للأفلام التي يكتبها مخرجها دون أن يعتمد نصاً أدبياً روائياً أو قصصياً.
التأليف السينمائي والإخراج السينمائي عمليتان للإبداع منفصلتان وتكملان بعضهما بصيغ مختلفة. بمعنى أما أن يكون كاتب النص القصصي ومنفذه سينمائياً هو شخص واحد أو أن يكون الكاتب هو غير المخرج.
إن موهبة كتابة النص السينمائي هي موهبة قصصية وروائية لو تمكن منها المخرج السينمائي فإنه يرتقي بفنه إلى عملية الخلق الكاملة. وفي هذا المجال يحضرني السينمائي الإيطالي «بيير باولو بازوليني» والسينمائي السويدي «إنجمار بيرغمان» فكلاهما يكتبان الرواية والشعر. هما وأمثالهما باحثون في واقع الإنسان وقراء لحالات إنسانية. امتلكا صنعة السينما كعملية متكاملة في شقيها الأدبي والفني. أصحاب سينما المؤلف والمنتمون لهذا الاتجاه هم ليسوا صناع سينما فحسب بل هم فلاسفة ومفكرون وعشاق قيم خلاقة وتكتسب أعمالهم السينمائية قيماً جمالية أخاذة. فالسينما عندهم هي هم إنساني ووجداني ووسيلة التعبير السينمائية تشكل لديهم قيمة فكرية وفنية جمالية لا تنفصل عن بحثهم الاجتماعي عبر الكتابة السينمائية. سألت بازوليني مرة «لمن تعمل أفلامك» فقال «إني أعمل أفلامي لمشاهد اسمه بازوليني» وهو هنا يعتبر العملية الإبداعية في السينما كتابة وإخراجاً هي متعة ذاتية في كشف الحقائق الموضوعية. فهو أشبه بشخص يريد أن يرى نفسه في المرآة ليكتشف ذاته على أكثر من صعيد. هذا التألق في عدم التنازل لمتطلبات الإنتاج هو الذي يضفي مزيداً من الصدق على الإبداع السينمائي. لذا فإن عملية الخلق في الكتابة هي غير منفصلة عن عملية التنفيذ عند شخصية مثل شخصية بازوليني سينمائياً. وكذا الحال عند بيرجمان السويدي الذي لم تلق أعماله صدى في أمريكا فيما تتسم أعماله بالعبقرية في الشكل والمضمون. ويبدو أنه عبر بصدق عن مجتمع غير مفهوم أمريكياً ولذا جاءت أفلامه باردة وبطيئة الإيقاع عند المتلقي الأمريكي!
لو أخذنا هذين المثالين بازوليني وبيرجمان وهما مؤلفان لأفلامهما وأسقطنا تجربتهما على سينما المؤلف العربي لشاهدنا عمق المسافة بين التجارب. المخرج المؤلف أو المؤلف المخرج العربي هو مبدع خاضع لشروط الإنتاج العربية. إن بازوليني أو بيرغمان على سبيل المثال عندما يلح عليه موضوع معين ويؤرقه ويريد أن ينجز عملية الولادة ويكتب ما يؤرقه فهو لن يفكر في صيغة الإنتاج بمعنى لا يخصع كتابته لشروط الإنتاج. هو يكتب فحسب فتأتي العملية الإنتاجية بشكلها الطبيعي ودون المساس بحرية الكتابة والتعبير فلمثل هؤلاء المخرجين وأسمائهم سحر خاص لدى المتلقي في أوربا في الأقل ولهما جمهور يحترم الإبداع والقيم الفنية الجمالية لأعمالهما. كان بازوليني عندما التقيته في بيروت وأجريت معه حواراً يفكر بالجانب الجنسي في حكايات «ألف ليلة وليلة» وكان فقط يريد أن يعرف شيئاً غير المدون في الكتاب عن سحر منطقة الشرق وطبيعة المكان والمعايشة الإنسانية للشرق وبشكل خاص الشرق الذي مازال يعود إلى حقب سابقة ولم تعبث به الحضارة فتغير ملامحه. كانت هذه هي مشكلته الأساسية وليست العملية الإنتاجية. صادف أني كنت أكتب موضوعاً من ألف ليلة وليلة وكنت أفكر بالجانب الفنتازي للحكايات وللمخيلة المرتاحة لأقوام عاشوا قبلنا ولم تزعجهم الحياة كما تزعجنا الآن. وكنت خلال زياراتي الكثيرة لجنوب اليمن أو لليمن الجنوبية أزور مدينة حضرموت التاريخية والغريبة الطراز في بناياتها التي يطلق عليها ناطحات السحب والمبنية من الطين والتي ترتبط بيوتها من خلال ممرات معلقة في الفضاء بين بناية وأخرى وبين بيت وآخر. وكنت صورت تلك البيوت فوتوغرافياً. فأطلعت بازوليني على تلك الصور التي سحرته وطلب مني المساعدة في الوصول إلى حضرموت وبحكم علاقاتي الوطيدة بالسلطة اليمنية الجنوبية وفرت له زيارة بدعوة من وزير الثقافة «عبد الله باذيب» واستضيف وبدأ العمل وأنجز فيلم «ألف ليلة وليلة». المخرج المؤلف بازوليني يكتب ما يؤرقه وبمجرد أن ينجز الجانب الأدبي فإنه لا يعاني من الجانب الإنتاجي ويستطيع أن يحقق ما يحلم به فينتج فيلماً لمشاهد اسمه بازوليني وبهذا تتطابق عملية التأليف مع عملية الإخراج بكل حرية.
سينما المؤلف إذاً هي سينما حقيقية متطورة في بعدها الإبداعي والجمالي. ولها خصوصيتها. وصاحبها أي المخرج المؤلف أو المؤلف المخرج هو شخص متألق في مجال إبداعه السينمائي.
بالتأكيد ثمة أعمال أدبية عظيمة تستهوي صناع السينما. وثمة من يعتقد وهم كثر ومحقون أيضاً بأن الكثير من الأعمال الأدبية العظيمة والروايات الأخاذة الصنعة والفكرة تبقى أهم من الفيلم السينمائي المأخوذ عنها. بمعنى أن ثمة تفاصيل في كتابة النص الروائي الأدبي، السينما غير قادرة وغير مسئولة عن الأخذ به لأنه خارج مفردات لغة التعبير السينمائية وهو حالة تأملية تخص الكاتب والقارئ وعلاقة المتلقي بالمبدع. فهي أي الرواية حالة تجلي في التلقي لها خصوصيتها ولا تخضع للمزاج العام في المشاهدة. ثم إن هناك روايات كبيرة في زمنها وتفاصيلها بحيث لا يمكن أن يستوعبها زمن المشاهدة السينمائية المتمثل بالساعتين، لكن تلك الأعمال أخذت عنها أفلام سينمائية ولم تقدمها كما هي مكتوبة على الشاشة. هذه الأعمال تستهوي وتثير الشهية السينمائية لأكثر من سبب يتعلق إما بالموضوع أو بطبيعة الأحداث أو بطبيعة الشخصيات المرسومة أو بالفترة التاريخية والاجتماعية التي تعبر عنها هذه الرواية أو تلك.
سينما المؤلف تحتاج إلى موهبة ثانية هي ليست موهبة الإخراج. سينما المؤلف هي سينما الأديب والكاتب المخرج والمخرج الكاتب المؤلف.
- سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@ziggo.nl
* هولندا