عانت صناعة النشر العربية، ولا زالت، من آثار الحراك الشعبي الجبار الذي اكتسح عدة عواصم عربية فيما يشبه المستحيل، فشلّ حركة الكتاب وتداوله لعدة أشهر، كلفت جيب الناشر ما لا يمكن تعويضه في حيز زمني قريب، وساهم في مضاعفة الخسائر غياب عدد من معارض الكتب الدولية في مناطق الثورات، لعل أهمها معرضي القاهرة وتونس اللذين يقصدهما مئات الآلاف في كل عام.
فالحدث قلب الموازيين، و بدل الأولويات، و همش الترتيبات، واعتلى بالذهنية العربية إلى مستوى الحدث،حراكا وانشغالا ومتابعة، وجعل من الإعلام الجديد بكافة قنواته المصدر الحر الوحيد لتبادل الأخبار والتحليلات والقراءات والتقارير والشهادات والتحقيقات.
شعوب هادرة،غادرت في ظرف يفوق المعجزة، قمقم المارد، واندفعت في كل اتجاه بحثا عن الهواء والنور والخلاص، ملحمة لم تنته فصولها بعد.
نعم، كان ربيعا للشعوب والقارئ المفترض، خريفا كئيبا ونزيفا موجعا على الناشر العربي. فالكتاب ليس منتجا ثقافيا خالصا، بل هو يرتبط بشكل وثيق ومباشر بظروف التجارة وقوانينها ومتغيراتها.
بعض الناشرين قرر أن لا يظل متفرجا ومراقبا قليل الحيلة، فعاجل بالدفع بعشرات الكتابات والعناوين الرنانة، محتوى يخوض في المجهول، وجهات نظر، ورؤى انطباعية صرفة، كتابات لا تغادر مكانها، ولا تملك إلا ترديد الأسئلة الصغيرة وتكتفي، تنظر جميعها من ثقب واحد، وليس لها أن تطلب آخر، فالأرض ما زالت تتحرك، والسماء ملبدة بألف غيمة وغيمة، والشمس في أقصى العتمة تنتظر الشروق المؤجل.
المرحلة لا تزال قصيرة جدا ومبهمة جدا على كتب الوعي النقدي والتاريخي التي تعتني بسيميائية الحدث، وتتناوله بموضوعية وحيادية بعيدا عن إسقاطات المرحلة وجلبة التكهنات.
