| |
الفكر التصالحي في خطاب عبده ..! 2-2 د. حسن بن فهد الهويمل
|
|
ونحن بهذا الاستجلاء، لا نُحدِّد موقفنا من آرائه التي خالف فيها الجمهور، وإنّما نريد اكتشاف نزعة (المصالحة) في كافة ممارساته السياسية والفكرية والدينية، وفي تفسيره كواحد من منطلقاته الدعوية، وإلاّ فإنّ للإمام (محمد عبده) تأمُّلات وتأويلات لا نجد مبرراً للأخذ بها، كما أنّ هناك آراء حول حركته الإصلاحية واتهامات حول أهدافه وغاياته وارتباطاته لا يعنينا تفنيدها. وما من مفكِّر بحجم (محمد عبده) إلاّ وتختلف الآراء حول مذهبه، وهو مع كلِّ ذلك يشكِّل منعطفاً فكرياً لا يُستهان به، وله إلى جانب الدعوة نزوعٌ فكريٌّ عميق الرؤية ساقته إليه النزعة المادية التي طغت في الغرب، وشكَّلت ثقافة إلحادية. وكتابه (رسالة التوحيد) و(الحاشية على شرح العقائد العضدية) وشرحه ل(البصائر النصيرية) في المنطق تكشف عن جهد فلسفي استدعته المرحلة المعاشة، ولا أحسبها رغبة عَمَد إليها، وأنشأها بطوعه، هذه النزعة تكشف عن ميله إلى التأويل العقلي، ومعالجة الأمور الغيبيّة مستعيناً بالعقل والمنطق، على الرغم من المحاذير في هذا الاتجاه. ولكن هذا الميل لا يخل بنزوعه إلى (المصالحة)، وهو ميل فرضته الفلسفة المادية في الغرب، مع أنّه قد حمل على المؤولين والموغلين في تصوُّر عالم الغيب، وعلى الذين يعتنون بالتفصيل. فهو ميّال إلى فهم المعاني إجمالاً، وليس معنياً بإتقان خطابها، أو الدخول في الجدل الفلسفي حول كثير من القضايا الفكرية. ومع ما تفرضه المرحلة من نزوع عقلي فقد ظلّ محتفظاً بالوسطية، يقول الدكتور (عثمان أمين):- (وتتجلّى في تفسير محمد عبده سعة النظرة وروح التسامح)، وأي مصلح يعيش وسطاً فكرياً، لا ينجو من فرضياته وممارساته، ولهذا نجد أنّ (ابن تيمية) استوعب ثقافة عصره، وعالج مجمل القضايا المثارة. و(محمد عبده) في عصر طغت فيه نزعات عقلية وعلمية وإلحادية لا بد أن يستوعب المرحلة، وأن يعدِّل عن خطابه التسامحي حين لا يكون بد من المواجهة العنيفة، وأحسب أنّ المرحلة التي عاشها عصفت بها أعاصير السياسة، وتمخَّضت عن دعوات قومية وإقليمية، شغلت العلماء عن التفرُّغ لعلمهم، وأنهكت خطابهم، وصرفته بعض الوقت عن مهماته الأساسية. والمصلح نشأ في ظل مخاضات سياسية عنيفة أسهمت في التأثير على خطابه المتوازن، وإن لم ينجرف في تيار الثورات الدموية، فهو قد ولد والحراك السياسي على أشده، وأثر (الحملة الفرنسية) بادي الوضوح في كافة المشاهد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. فلقد بدت القومية بشكل واضح، وطغت مصطلحات سياسية ذات أثر فعّال، تمثَّلت في (الديمقراطية) و(الدستور) وتشخصن في ظل ذلك الفكر السياسي والاجتماعي. والقارئ لتاريخ (عبد الرحمن الجبرتي) يعرف حجم التحوُّلات المتعدِّدة في المشاهد المصرية على كلِّ الصعد. لقد دارت في المشاهد قضايا (المرأة) و(القانون) و(الاستقلال) و(الدستور) و(الدولة الإسلامية) و(الدولة المدنية) و(الديمقراطية) وسائر المصطلحات السياسية، ولقد شكَّل (رفاعة الطهطاوي) و(جمال الدين الأفغاني) تحوُّلات جذرية في الفكر المصري الحديث، فيما جاء أثر (قاسم أمين) في الفكر الاجتماعي، وجاء (محمد عبده) حلقة في سلسلة الفكر الديني المتعصرن، ولم يكن الخطاب الديني المتوازن وحده المتنفّذ في المشهد المصري، بل كانت هناك طوائف عدَّة. لعلَّ من أهمها (الخطاب القبطي) متمثلاً بالسلسلة الصدئة على يد (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري). وهناك حركات مادية وروحية واجتماعية متعدِّدة، ربما تكون قد خرجت على كلِّ الأفلاك السائدة، يعرفها الراصدون للتاريخ الفكري المصري. وكتاب (تاريخ الفكر المصري الحديث) للمفكِّر القبطي (لويس عوض) يرصد لكلِّ التحوُّلات الفكرية، وإن كان مأخوذاً بالفكر الذي ينتمي إليه، وليس مهماً ما يجنح إليه، إذ لم نعتمده مرجعاً للتحوُّلات الفكرية عند المفكِّر (محمد عبده). وإذ نقول بالسلسلة القبطية، نقول بالسلسلة الإسلامية فهي تبدأ ب(الطهطاوي) مروراً ب(الأفغاني) ف(محمد عبده) ف(رشيد رضا)، ولقد تشعّب الخطاب الإسلامي، ولم يعد من الممكن تصوُّره، وبخاصة حين ظهر حزب (الإخوان المسلمون) ودخل في النزاع على السُّلطة ، وكرَّس على مصطلح (الحاكمية) و(دار الكفر)، وانشق منه دعاة متشدِّدون. ولا يتعارض مع سمة (المصالحة) في فكر (محمد عبده) احترافه للسياسة، ونزوعه القومي، وانضمامه إلى (الحزب الوطني)، واشتراكه في (الثورة العرابية) ونفيه. لقد أحال (العقاد) ذلك كله إلى الحماس والنخوة الريفية وإلاّ فهو مستشعر للمصلحة الاجتماعية والسياسية التوافقية، ولهذا ذهب (العقاد) على طريقته في التحليل النفسي إلى التفريق بين (الإقدام) و(الاندفاع)، فهو مقدام يزن الأمور، وليس مندفعاً تحكمه الخفّة والطيش والعجلة. فعندما نفي من موطنه كان مقداماً يواجه الاستعمار في عقر داره، ولبلورة فكره أصدر مع (الأفغاني) مجلة (العروة الوثقى). وقد تقصَّى (لويس عوض) تاريخها وأهميتها في حديثه عن تاريخ الفكر المصري الحديث، كما تناولها أكثر من دارس حركتهم أنساقهم الثقافية، ومجمل الأقوال تتجه صوب الهدف الأسمى للمجلة، وإن كان الغموض يكتنف مهمات (جمال الدين الأفغاني). ومن الصعوبة بمكان استخلاص الحق من بين ركام الصراع الفكري الذي لا يحترم المصداقية، وليس هناك أصعب على الباحث من الوقوف على حقيقة الدعوات الإصلاحية والاتجاهات الفكرية، لأنّ تاريخها ضائع بين المريد المزكي والمناوئ المجرِّح. ولأنَّ اللقاء حول مئوية (عبده) ذا طابع أدبي فإنّ من الأفضل أن ننظر إلى إسهامات المصلح في بعث التراث الأدبي تحقيقاً ودراسة وتدريساً، مما يشي بإمكانياته الأدبية وتوظيفها في تحقيق المصالحة مع الخطابات المجايلة، فأهم مصادره اللغوية تحقيقه وشرحه ل(نهج البلاغة) وهو حافل بالنصوص الإبداعية المنسوبة ل(علي بن أبي طالب) رضي الله عنه، وسواءً صحّت النسبة أو لم تصح، فالكتاب نصٌّ أدبيٌّ زاخر بالموضوعات والحِكَم والمواعظ. و(مقامات بديع الزمان الهمذاني) و(المخصص) ل(ابن سيده)، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) ل(الجرجاني)، وتلك من أمهات الكتب اللغوية والأدبية والبلاغية. ف(الجرجاني) يشكِّل منعطفاً أسلوبياً بتحريره البلاغة العربية من المعيارية الصارمة، وإن لم تثن المعياريين عن جمودهم. وتلك الجهود التي لا ينهض بها إلاّ عالمٌ لغويٌّ متفرِّغ للتحقيق والدراسة الأدبية أسهمت في بلاغة خطابه وتأثيره، فهو قد وظَّف هذه الإمكانيات لعمله الصحفي الذي مارسه بالاشتراك مع (جمال الدين الأفغاني). واهتمامه المتميّز بالتراث اللغوي لم يحل دون اهتمام مماثل بالتراث الفلسفي والمنطقي. والاشتغال المتمكِّن بالتراث اللغوي والفلسفي والمنطقي شكَّل أرضية صلبة قوية لممارسة مهماته الشاقة باقتدار. و(محمد عبده) الذي ولد على مفترق الطرق تنازعته رغبات ومهمات، لم يكن قادراً على التحكُّم فيها ما لم يتسلَّح بسلاح العلم المفتوح على كلِّ المعارف، وما لم يصنع نفسه على عين الحضارة المعاصرة، ليكون قادراً على مواجهة كلِّ التيارات والمذاهب. ونزعة المصالحة التي اختارها من بين عدَّة نزعات ليست سهلة المنال، إنّها خيار أصعب، فالمبادئ لا يمكن أن تكون مجالاً للأخذ والعطاء، ومتى أخطأ التقدير والتوقيت في أسلوب المصالحة مسّ المبادئ قرح لا برء منه، ومن تصوَّر أنّ المصالحة نوع من التنازلات فقد أخلَّ بالمفهوم وأخطأ في التصوُّر. إنّ المصالحة إغراء للطرف الآخر كي يسمع كلام الله متمتعاً بالحق الإسلامي من الإجارة وإبلاغ المأمن، وهي نوع من التبليغ بالحكمة والموعظة الحسنة، ومتى أخلَّ المصلحون بمفهومها فقد وقعوا في الموبقات، واتصفوا بالمداهنة والركون إلى الذين ظلموا. إنّ مصالحة كبار الدعاة تأليف للقلوب، وتمكين للدعوة من النفاذ، ولقد أدرك المشركون خطورة السماع للقرآن فتواصوا بعدم السماع، وحرضوا على اللغو أملاً في الغلبة. وما المصالحة إلاّ محاولة جادة لإسماع كلام الله. فهل يستطيع حملة مشاعل الحضارية الإسلامية اختراق فضاءات الآخر ببعث الطمأنينة في النفوس، وتفادي العنف والتطرُّف؟ إنّ عصرنا الدموي أحوج ما يكون إلى دعاة مصلحين يؤلفون بين القلوب، ويصلحون ذات البين، ويشتغلون في أصول الشريعة، ويتركون الخلافات الجانبية. وما كانت دعوة الرسل في أوج الجاهلية إلاّ لشهادة التوحيد, فإن هم أطاعوا لذلك بدأ الاشتغال فيما دونها، واستكمال متطلَّبات الدين في أول يوم مدعاة إلى التندر. ولقد قال أحد الساخرين: - كيف أقبل بدين يقطع رأس الذَّكَرِ عند الإسلام، ويقطع رأس البشر عند الخروج منه. يعني (الختان) و(حكم المرتد)، وما درى أنّ الختان من سنن الفطر السليمة، وأنّ العلماء يختلفون حول تحديد مفهوم الردّة وحول الحدّ الذي يستحقه. والقضايا الخلافية رحمة للأُمّة متى استطاع المصلحون التفاعل معها بحكمة وروية.
|
|
|
| |
|