| |
شيء من واقع الحال محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ
|
|
يقول إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق): (بالنسبة لأوروبا كان الشرق، باستثناء الإسلام، حتى القرن التاسع عشر ميداناً ذا تاريخ مستمر من السيطرة الغربية التي لم تُتحدَّ، ويصدق هذا على التجربة البريطانية في الهند، وعلى التجربة البرتغالية في جزر الهند الشرقية، والصين، واليابان... إلا أنَّ الشرق العربي والإسلامي بشكل عام، كانا الوحيدين اللذين واجها أوروبا بتحدٍّ لم تجد له حلاً على الأصعدة السياسية، والفكرية، ولزمن قصير، الاقتصادية أيضاً).. انتهى. كان هذا التّحدي الذي يتحدث عنه إدوارد سعيد هنا - وهو حقيقة لا يمكن تجاوزها في تقديري - يعود إلى الإسلام، والنظرة إلى الأجنبي، انطلاقاً مما يُمكن تسميته بمفهوم (الولاء والبراء) في ثقافتنا الإسلامية.. وهذه نظرية قد تصل في رأيي إلى درجة الحقيقة، لذلك يمكن القول إن هذا المبدأ كان له الفضل بعد الله في حماية المسلمين خصوصاً من السيطرة الغربية بشكل عام، ومن الاستعمار على وجه الخصوص في الأزمات السابقة. غير أن الأمر الآن قد اختلف، فبعد انتهاء حقبة (الاستعمار) التقليدي عملياً، تحوَّل (الصراع) وربما (الاستعمار) إلى ميادين أخرى، ولم يعد مثلما كان الأمر في الماضي. هذا (التحوُّل) أو التغيُّر أو التبدُّل أو سمه إن شئت: (التطوُّر)، يُحتم علينا بالضرورة - كما أطرح دائماً - أن نعيد نظرتنا في علاقتنا بالآخر، أو سمه إن أردت: (الكافر)، من كونها نظرة محض سلبية تقوم على العدائية والكراهية والبغضاء إلى رؤية تقوم على (التعاون) وتبادل المنفعة، التي من خلالها نستطيع أن نلتحق كأعضاء فاعلين في المنظومة الحضارية العالمية، التي تقوم على توظيف التنافس بين الأمم والثقافات لفائدة (البشرية) ونعمائها وليس (لفنائها)، من خلال مبدأ (السلام بدلاً من الحرب)، وهذا ما يُحتِّم علينا أن نواكبه، وأن نتغيَّر معه ثقافياً. أعي تماماً أن هذا التّحول، أو المواكبة، أو المعاصرة، تريد في المقابل عقولاً نيّرة، وعلماً غزيراً، ومواقف شجاعة، وثقافة ثرّة، ورؤية ثاقبة، معاصرة، وتضحية في سبيل مصلحة الوطن، كي يأخذوا بنا (ثقافياً) على مستوى (الفقه الشرعي)، الذي تتكىء عليه شرعية هذه البلاد، من التقوقع في الماضي، أو حتى الراهن، إلى (المعاصرة)، والتحليق مع العالم في آفاق المستقبل، بدلاً من (السبات العميق) الذي تغط فيه أذهان بعض المنتسبين إلى العلم الشرعي لدينا. الصراع بين الأمم تغيَّر.. وحتى إذا افترضنا أنه لم يتغيَّر، وظل كما هو عليه في السابق، فإن (الصراع المسلح) نفسه قد تغيَّر هو الآخر، (فالغزو)، أو (السيف)، الذي هو مقتضى جهاد الطلب، الذي يعتبره البعض منا (مُتعيّناً) متى ما تملّكنا (القوة) الموازية أو المماثلة لما لدى (الكفار)، هو اليوم عملياً وواقعياً لا يمكن تحقيقه.. فلو افترضنا - جدلاً - أننا ملكنا (القوة النووية)، التي هي شرط الضرورة (الأول) للقوة الموازية لما لدى الآخر، وافترضنا - جدلاً أيضاً - أن ولاة الأمر فينا (قرروا) الغزو تحقيقاً لجهاد الطلب، معنى ذلك أن فناء البشرية أصبح احتمالية شبه مؤكدة إذا لم تكن مؤكدة بالفعل.. وبدلاً من أن ننشر الإسلام، الذي هو مناط جهاد الطلب، فسنقضي على البشرية أو نكاد!.. حتى إسرائيل، ودعك من الدول الكبرى (الكافرة) فإنها بامتلاك (الرادع النووي) كما هو معروف أصبحت (واقعاً) لا يمكن اجتثاثه للأسف بقوة السلاح، هذه هي الحقيقة التي لا يريد (الحالمون) الرضوخ لمقتضياتها. أقول ذلك، لأبسّط - ما أمكن - معنى إصرار البعض منا على أن (الغزو) وجهاد الطلب قضية ستبقى أحد خياراتنا، بغض النظر عما يقوله واقع الإنسانية اليوم، والتغيُّر النوعي الذي طرأ على السلاح والعتاد مؤخراً عما كان عليه في الأمس، الذي لا يضع له بعض البسطاء منا أي (تقدير) في حساباتهم، أو قل: في خطاباتهم. وكنت قبل فترة في حوار مع أحد الباحثين الأمريكيين، الذين قدموا للمملكة للبحث في هذه الشؤون، أتحاور معه حول مفهوم (الحرب) ومفهوم (السلام) في ذهنية السعوديين المعاصرين.. سألني: (هل التّخلي عن الغزو هو تخلٍ عن الإسلام)؟ قلت: لا، فنحن كمسلمين معنيون بنشر الإسلام والدعوة إليه من حيث المبدأ، ربما أن (الغزو) كان وسيلة مشروعة في الماضي بين الأمم، أما الآن فإن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة متوفرة وممكنة، فلماذا القتال، ولماذا الدم إذن؟.. إضافة إلى أن مواثيق الأمم المتحدة تمنع الغزو، وضم الدول باستخدام السلاح، كما فعل صدام بالكويت، فأبرز لي عدة (فتاوى) لعدد من علمائنا يؤكدون فيها أن تعطيل (الغزو) الذي كان يفعله السلف عند (القدرة) عليه، هو تعطيل لحكم شرعي من أحكام الإسلام، وهذا - كما يقولون - ما انتهى إليه السلف الصالح!. عندها أسقط في يدي، وهززت كتفي وسكت!..
|
|
|
| |
|