يهدف الروائي نورالدين محقق في روايته «النظر في المرآة» إلى تغيير النظرة السابقة حول الرواية، وتجديد القراءة لها، سواء من الناحية التحليلية النقدية الصرفة أم من الناحية التأويلية الموضوعية؛ وهذا ما يؤكد لنا بالملموس أن الرواية المذكورة قد خرجت عن السائد في الكتابة الروائية، وانطلقت، ومن خلالها انطلق الروائي نحو آفاق جديدة للكتابة السردية الروائية بشكل يوحي بالتجديد والتجريب المبدعيْن. فقد أعلن الروائي في العديد من المحطات داخل الرواية عن خوضه تجربة مختلفة عن المألوف والسائد في الكتابة الروائية هدفًا في خلق نوع من الصدمة لدى القارئ بالدرجة الأولى، وفي تشكيل وعي جديد بالتأويل والقراءة.
لقد أدرك نورالدين محقق أن على الرواية العربية الجديدة ينبغي عليها أن تقطع شوط التجاوز للتجارب الروائية السابقة عليها؛ وهذا ما فرض عليه أن يكتب روايته «النظر في المرآة» بطريقة مختلفة وبأسلوب جديد يتجاوز الأسلوب الروائي المألوف. لقد انتهج أسلوبًا آخر راوح فيه بين معالجة الشكل والبناء الفني للرواية وبين المحتوى الفكري، لأنه يؤمن بأهمية تجاوز الأفق الضيق الرؤية للكتابة الروائية الذي درج عليه روادها والانزياح عن بعض أنماطها السابقة. ومن هنا نؤكد على أن الروائي هدفه هو أن يكون فنيًا بالدرجة الأولى من خلال بناء روايته على شكل غير مألوف، لأن غايته هو الرؤية للواقع والعالم وكيفية تقديمه إلى القارئ بشكل سردي مختلف يوحي باستسلامه لسلطة نصه الروائي؛ فهي رواية تقوم، حسب الناقد التونسي قيس الهمامي (في كتابه «التجريب وإشكاليات الجنس الروائي»)، على «ذاتية الصياغة وانبناء النص وفق طبيعته الداخلية التي تنشئ قوانينها الداخلية». ومن هنا، نقول: إن قراءتنا للرواية قد تختلف عن قراءات الكثيرين، فليس هناك نموذج معين أو أوحد للقراءة النقدية، وبالتالي فلكل قارئ أو ناقد طريقته ونظرته للنص التخييلي.
إن قراءة الرواية تبرز منذ البداية قدرة نورالدين محقق على التشخيص واستدعاء سلطته الروائية في الكتابة السردية ومجابهته لكل من يحاول رفضها أو الوقوف في طريقها؛ حيث إن الرواية، كما جاء في نهايتها، «تنبني على دمج مجموعة من العناصر السردية المنفصلة عن بعضها البعض في إطار سردي محكم استطاع الجمع بين مختلف مكوناتها من جهة كما أثارني أيضًا كون مضمونها حتى وهو يمتح من السيرة الذاتية لكاتبها، فإنه، أي المضمون كان إنسانيًا، يتجاوز المحلية ليصب في العالمية. وهو أمر أصبح مطلوبًا ومرغوبًا فيه في ظل التحاور الحضاري والتسامح الكوني، فهذه الرواية، كما أؤكد لكم، وكما أكدتُ هذا للراوي، وهو يمدني بمخطوطها، قصد إبداء الرأي فيه، وإصلاح ما اعوج من منعرجاته السردية، هي رواية الحداثة وما بعد الحداثة أيضًا، لأنها رواية تنبني على التشظي وليس على الانسجام الخطي البسيط، على مستوى البناء الكلي لها، كما أنها تنبني في المقابل على ربط كل الخيوط السردية وجعلها تكون مجتمعة نسيجًا روائيًا هائلًا جديرًا بالثناء والتقدير» (النظر في المرآة، ص. 169).
من هنا نستشف، كما جاء في الرواية، على لسان ناقد ما والذي تخيله الراوي والعهدة عليه، أن النص عبارة عن إرهاصات للسيرة الذاتية للكاتب نفسه، لكنها سيرة مختلفة عن باقي السير الذاتية التي نعرفها، إنها سيرة إنسانية محملة بالعديد من المواقف الاجتماعية والإنسانية، بالمشاعر الفياضة تجاه شخصيات ثقافية وعلمية وفكرية وفنية لها وقع وأثر في نفسية الكاتب/ الراوي. هذه الشخصيات التي استحضرها الراوي تمثل القيم الإنسانية والثقافية العربية والعالمية بامتياز، سواء من خلال تفاعلها مع الكاتب نفسه، أم من خلال ما تركته من أثر نفسي وفكري ومعرفي لديه، مستندًا في ذلك على الذاكرة القوية والغنية بالأحداث والوقائع المثيرة والمؤسسة لوعيه بالعالم ونظرته له.
تلعب الذاكرة في الرواية دورًا أساسيًا في البناء السردي، وتحديد أهم ملامح الشخصيات الروائية الحقيقية التي ساهمت بقوة في بناء الخطاب الروائي بشكل واضح وبسيط وأحداثه الأساسية ما بين فضاءيْن كبيريْن هما الدار البيضاء وباريس. كلها شخصيات تؤسس لوعيه بالذاكرة وقدرتها على إعادة ما تمّ فقدانه في فترة زمنية ماضية؛ ويبقى السعي وراءها والاستنجاد بها طريقة للخروج من ورطة ما أو للابتعاد ما أمكن عما يشعره بالحزن والوحدة والعزلة. إن جمالية الكتابة الروائية في رواية «النظر في المرآة» تنطلق من كون الكاتب يستدعي التخييل الذاتي وقدرته على تكسير الهوة بين السيرة الذاتية والتخييل الروائي، معتمدًا في ذلك على لغة سردية متشظية تغتني لمعجم سردي مختلف؛ حيث يحاول الكاتب أن يبتعد ما أمكنه ذلك عن المألوف في الكتابة السردية وأساليبها المعروفة.
أن تستنجد بالقارئ لكي يستمر في القراءة ويعرف كل التفاصيل المسرودة، ويشوقه بالجديد من الأحداث والوقائع العاطفية والمشاعر الإنسانية التي عاشها الراوي/ الكاتب واستمتع ببعضها أو عانى من بعضها الآخر، لا يمكن أن يكون إلا من طرف كاتب مبدع مثل نورالدين محقق الذي يعرف كيف يستغل مثل هذه الأشياء والأفكار ليكتب روايته «النظر في المرآة» وكأنه يعيد وقائع نسيها أو يستعيد شيئًا مفقودًا يقض مضجعه، وبالكتابة عنه يكون قد تخلص منه إلى الأبد. فهناك انزياح نحو إعادة سيرة الأصدقاء والصديقات الذين تركوا بصمات متميزة في حياة الراوي، واستعادة مجموعة من الأشياء والمواقف المثيرة والتي يصعب نسيانها أو تناسيها.
تلعب الذاكرة في النص دورًا أساسيًا في تشكيل الوعي الثقافي لدى القارئ ومظاهره المرتبطة بالظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية المنتجة له؛ وهو ما يجعلنا نقر بأن النص من خلال الراوي/ الكاتب يدرك أهمية ذاكرته في تكريس وعي مجتمعي مختلف عن السائد والمألوف. وفي هذا الصدد نستحضر مقطعًا يمثل بجلاء ما نقوله: «كنت جالسًا في مقهى وركان بحينا العتيق في ذلك الزمن البعيد. كنت قد انتهيت للتو من كتابة قصيدة تحمل عنوان ‹أنشودة أورفيوس› كتبتها باللغة الفرنسية. هي التي فرضت علي لغتها. حرت في أمرها وفي المكان الذي سأقوم بنشرها فيه، فقد كانت عملية النشر صعبة جدًا خصوصًا حين يكون الأمر متعلقًا بالشعر. جاء صديقي بوشعيب كادر فقدمتها له. أعجب بها وشجعني على نشرها. ترددت في الأمر فقد كانت قصائدي باللغة العربية قد وجدت طريقها إلى النشر وحققت لها بعض التواجد» (ص. 17).
ترتكز الذاكرة في النص، ذاكرة الراوي/ الكاتب على تفكيك الأحداث السابقة التي يتتبع خيوطها ومرجعياتها الثقافية وارتباطاتها الاجتماعية والإنسانية على المستوى الثقافي والإنساني من خلال تبئير الكتابة عن أحداث محددة ومعينة حول التفاصيل التي أيقظت لديه الوعي بالآخر، الآخر الذي ترك أثرًا فيه وفي حياته. إن الرواية قراءة لملامح العلاقة الفكرية والإنسانية التي تربطه بالآخر بكل تفاصيلها العقلية والمادية وما أفرزته من رؤًى وتصورات حول الثقافة والفكر والمشاعر والعلاقات. ولقد حرص الكاتب على استثمار الذاكرة القوية في إعادة وصف حياة سابقة بكل تفاصيلها وتمثيل نماذج لها في حياته وحياة أصفيائه، وكأن الراوي/ الكاتب هنا يريد الكشف عن هويته الثقافية والفكرية بصرف النظر عن نوعية العلاقات والروابط التي تربطه بالشخصيات داخل النص الروائي؛ وكأنه يعبر بنا إلى عوالم متعددة لتأمين عبوره الآمن نحو وعيه الثقافي والاجتماعي المنشود.
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي