“ شفتان للمعنى
وللمعنى معانٍ عدةٌ
ولي احتمالي.”
بين “ساحل المعنى” و”رهافة الشعراء في المبنى” علاقة لا يوطدها، ويسمو بها، ويبقيها شاعلة مضيئة، دافئة مثرية، متجلية مبهجة، إلا الشعراء الشعراء، لا من ينظرون للشعر من الخارج، ولا من يرهقون المبنى بما يظنونه غريباً ومدهشاً وجديداً، وما هو إلا سراب التراجم، وبرود النظريات الكالحة، واستعراض الضعفاء بمفردات لا يجمعها إلا النشاز، ولا تقبلها الأذن العربية، ولا العين، ولا المعنى الذي يود الانتحار لاستحالة تحققه، ولصعوبة توفر الهواء اللازم له في تلك الفوضى الخانقة!! لقد سعدت كثيراً برؤية قصيدة “ قراءة “ للشاعر المبدع الجميل حقاً علي الدميني، منشورة كما يليق ببهائها وبهائه، وبهاء المجلة الثقافية حين تعود لأحبابها، بعد تمنع طال، وهنا أطلب من سعادة رئيس التحرير خالد المالك، والدكتور إبراهيم التركي، السعي جاهديْن لتوفير الأسباب لاستمرار وصالها ووصولها لنا بلا انقطاع.. نحن عشاقها الأوائل.
أعود للقصيدة فأجد أن شاعرنا قد أبدع في توصيل هذه القصيدة، عن القصيدة، ببساطة غير مصطنعة، وجريان ماء منساب من الأعالي، وعمقٍ نديّ، لا يكبّل، ولا يستعصي بقدر ما يثير فضول القارئ، فيمتعه، ويقوده إلى وفاق المعنى والمبنى، وانسجام المضمون والشكل. هذا هو الشعر المصفّى عندما يكتبه مقتدرٌ غير ظالم، وهذا هو الفكر مذاباً، معجوناً بالغناء:
“ وأنا أمام النص لا ألهو عن المضمون في المبنى
ولا أخفي عن العينِ التقيّة شكلَ ناحلة القوامِ
وقد أطلّت من شبابيك المدينةِ نصفَ عاريةٍ..
ولكني أضنّ
ببعض ما أمحوه في ورقي على نفسي
وأنثر ما تبقّى في نوافير اشتعالي.”.
لا يحتاج الشعر إلى التعقيدات الناتجة غالباً عن الضبابية، ولا إلى الالتفاف الناتج حتماً عن التيه، فهو واضح بقدر ما هو غامض، غامض بقدر وضوحه، يحتاج إلى شاعر يعرف كيف يزن معادلته الصعبة، بانحياز دائم للفطرة والموهبة، واكتناز بالمعرفة الشاملة، وولعٍ بالشعر والناس قبل الشاعر والنخبة، وبدربة على استجلاء المعاني من التفاصيل، لا غربة عن المبنى والمعنى معاً: عمىً يقود إلى عمى. وكما لا يمكن لشجرة أن تنمو من دون تربة، كما لا يمكن أن يكون أصلها في السماء، وفرعها في الأرض.. فإنه لا يمكن اعتساف الشعر.
بمعنى آخر لا يمكننا قلب المعايير، مهما آمنا أن الشعر ثورةٌ وتغيير وتجدد، فهو كل ذلك.. نعم، وهو إضافة إلى ذلك التنامي مع التجريب، ولكنه في كل ذلك ليس التخريب. وقد يجسّد الشعر برودة حالةٍ، أو برود شخصية، ويبقى دافئاً لدى وصوله إلينا، ولربما وجدنا ذلك جليّاً في قصائد: “ المخبر”، “ المومس العمياء”، و “ حفّار القبور” لدى السيّاب، وفي قصائد غربته، وبرودة مشفاه، كذلك في “ أوراق الغرفة 8” لدى أمل دنقل، لكنها جميعها قصائد دافئة، عميقة، قريبة، تذكي جذوتك لكنها لا تتذاكى عليك..
“ وأرى على سطح الكتابةِ- ما تخبّئه الكتابةُ- من حروف الخوفِ والإدغامِ- والشجرِ المليء بخضرةِ الآثامِ- لا تخفى على عينِ الشجيّ-
رهافة الشعراءِ في المبنى- إذا عشقوا،
ولا ما يشبهُ “ الإقواء” إنْ راموا مراوغتي
وأخفوا خلفَ حرفِ العطفِ جارحةَ النصالِ”.
الله الله، أي جمالٍ هنا ورفعة يا عليّ؟!
إن هذه القصيدة، ومثيلاتها، مثالٌ حيّ على ماهية الشعر الحديث، وعلى قدرته على الوصول والتأثير والغناء. وهي درسٌ مجانيّ لمصطنعي الوهم، ومرتكبي الجرائم “ النصية” كما يفضلون، ومفتعلي الدهشة الذين لا يدهشون إلا زرافات الخديعة، وغربان الخراب... ماذا يتبقى بعدئذ:
“ شفتان للمعنى- يقرّبني القصيّ إلى ابتهال الشوقِ في شفةٍ
فأدنو قلب قوسٍ من حرائقها
وأصدرُ حين يمنعني الوضوحُ عن اكتمالي.”.
إذاً لا مزيد!!
* * *
المقاطع المقوسة: قصيدة “قراءة” للشاعر علي الدميني. المجلة القافية ع 318 ت: 28-10-1431
mjharbi@hotmail.com
الرياض