خوفاً من الجهر بأي معنى مفيد (فضلاً عن عدم القدرة على دخول المعاني من أبوابها.. إلى جانب انعدام المصلحة في التصريح والتلميح) تحول الخيالُ إلى واقع مرئي، والمجازُ إلى ممارسة لا تستعصي على أحد من الخاصة ولا تعسُر على فرد من العامة، وتحولت الاستعارةُ إلى واقعة تُجمعُ، لكثرتها، على وقائع.. بحيثُ لم يعُد أمام الشعر سوى الرجوع إلى الواقع.. الواقع كما هو.. الواقعُ باعتباره إيقاعاً للحياة.. حتى يكون الشعرُ تخييلاً عملياً وخلقاً فعلياً ومن ثمّ.. وبذلك.. يكون إبداعاً حقيقياً.
يدّعي هؤلاء أن الواقع معلومة إخبارية يطلع عليها ملايين البشر كلّ صباح والحقيقة أن الواقع غير معروف بالقدر الذي يدعيه.
لا يقدر الشعر العربي الحديثُ في معظمه أن يتواضع مثل رابندرادات طاغور ليصغي إلى ما يصغي إليه الصمت أو أن يتكبّر مثل أبي الطيب المتنبي ليحوّل النبوءة إلى مجرد جنحة يُعاقبُ عليها القانون بأيام معدودة من السجن الرحيم.
أمر واحد يقدر عليه هذا الحديثُ - المُسمّى عربياً - المكنّى شعراً.. هو الكذب جهاراً وإلقاء اللوم على الكراسي الفارغة كونها صُمّمت لغايات أخرى غير أن تظلّ فارغة أثناء الإنصات إلى كلمات لا رباط بينها سوى صراخ أصحابها.
لكأنّ ما أنجزه أصحاب المعلقات ومن بعدهم شعراء الخلافة.. ثمّ بعض الرواد.. ومن تلاهم من الذين استكثرت عليهم بلدانهم أن يكونوا شعراءها، سوف يشفع لهم تحميل الشعر ما لا يتحمله الشعر.
وما لا يتحمله الشعر هو نفي الجسد المخصوص من فضاء الكتابة وتحويل الحسي إلى نظري والثقافي إلى اقتصادي والكذب الحقيقي إلى حقائق كاذبة.. وهكذا دواليك.. إلى أن تتحوّل كل المعاني، وهي رابضة في مكانها، إلى نقيضها ثم إلى ما كانت عليه من قبل في شكل لعبة سمجة بلا ضوابط لا خسارة فيها ولا غنيمة.. فتصير الحياة، تبعاً لذلك، شهادة زور على الحياة ذاتها.
من الممكن أن ظلماً فادحاً لحق، جرّاء هذا التعميم، بعدة شعراء عرب صادقين مع تجاربهم ومع أنفسهم ولكن الذي يجب أن يُقال يجب أن يُقال حتى وإن لم يصدّقه أحد هؤلاء الشعراء الذين يعرفون سابقاً ما سيكتبون لاحقاً.. ويستنكفون لاحقاً مما كتبوه سابقاً.. ويُبدّدون اللحظات.. إما في الذكر والقدامة.. وإما في التبشير بما سيكون مقدمة للندامة.
تونس