حينما اجتاح نظامُ الرئيس العراقيّ السابق (صدام حسين) بجيشه دولةَ الكويت، في الثاني من أغسطس من العام 1990 كنتُ في القاهرة – بغرض السياحة الفردية والتحصيل الثقافيّ والمعرفيّ – وكنتُ لا أجد ساعات اليوم كافية لاكتشاف كلّ ما في مصر من ثقافات وفنون.. فالمكتبات كانت مغرية بالكتب التي لا وجود لها في مكتباتنا، والمسارح.. كانت المسارح هي المحطة الليلية في كل يوم من أيام إقامتي مهما تكن ممتدة.. فشارع عماد الدين – على ما أذكر – كان يضج ويعج بالمسرحيات لمعظم فناني مصر، وبعض المسرحيات كانت بمشاركة فنانين من مختلف دول العالم.. هذا غير دور السينما، والمتاحف.. ويا لها من متاحف كانت هي المتعة والدهشة في تلك الأيام..!
تلك الأجواء هي التي أحمل ذكرياتها من مصر وعن مصر، فقد غادرتها المغادرة الأخيرة قبيل بدء حرب تحرير الكويت (عاصفة الصحراء) في منتصف يناير من العام 1991 ويا سرعان ما جرت السنون حتى اكتمال عقدين إلاّ قليلاً، حيث زرتُ مصر خلال الأسابيع القليلة الماضية – بغرض السياحة العائلية هذه المرّة! - وكنتُ متحمساً للبحث في مصر عن مصر التي أحملها في الذاكرة..
لا أريد أن أستشهد بمقالة الكاتب محمد الحاج صالح المنشورة في العدد الماضي 318 من (الثقافية) بعنوان (لا عصمة بعد 11 سبتمبر) وأقارن أوسلو بالقاهرة، ولكنني لن أستطيع أن أقارن مصر التي زرتها مؤخراً بمصر التي عرفتها وأحببتها منذ أكثر من عشرين عاماً.. فمن المكتبات لم أجد إلاّ الإصدارات الأقلّ كثيراً (ومعظمها صادرة في بيروت) ومن المسارح الكثيرة لم أجد إلاّ واحداً يعملُ فقط لحساب المسرح القوميّ (مسرح الدولة الرسميّ - العائم) وكلما سألتُ أحداً عن المسارح قال لي: (كانْ زمانْ)..!
دخلتُ وزوجتي المسرحية الوحيدة المعروضة في القاهرة (مولد السيد المرعب) وقلتُ في نفسي: ربما ذلك هو الأنسب لأنها على مسرح القطاع العام المعروف بالرصانة والالتزام.. ومع أن فكرة المسرحية تمزج بين القضايا السياسية والواقع الاجتماعيّ في قالب كوميدي جسّده الممثلون ببراعة، إلاّ أنّ شطحاتٍ من الإسفاف والتهريج والإيحاءات والعبارات غير اللائقة (المرتجلة بين بعض أبطال المسرحية) كانت صدمات متتالية للجمهور القليل جداً الذي كان يحضر العرض، وطالعتُ في الصحف المصرية بعد ذلك هجوماً عنيفاً على المسرحية لأنها كانت لا تليق بالمسرح المسمى (المسرح القومي) الذي لم نجد غيره!
دور السينما كذلك كانت عجيبة، إذ كان من المعروف أن الأفلام الجديدة فقط هي التي تحظى بالعرض في دور السينما، ولكننا فوجئنا بمعظم المعروض هو نفسه الذي نشاهده في هذه الأيام نفسها على شاشات القنوات التلفزيونية الفضائية! أمّا عن المتاحف، فقد صارت زيارتها عذاباً أكثر منها متعة أو سياحة أو ثقافة.. والأسباب كثيرة، تبدأ بمواعيد افتتاح معظم المتاحف في القاهرة والإسكندرية، حيث لا تفتح أبوابها للزائر إلاّ وقت الضحى - قبيل الظهيرة - ثم تغلقها بعد العصر مباشرة.. مروراً بالمساحات الشاسعة التي يقطعها الزائر على قدميه تحت أشعة الشمس لعدم السماح للسيارات بالاقتراب من بوابات الدخول والخروج..
كنتُ أعرفُ أن مصرَ هي المكان الأجمل للسياحة العائلية العربية، والمساحة الأغنى بالثقافات والفنون.. وبتُّ الآنَ لا أعرفُ مصرَ التي.. إذْ لم أجد شيئاً من مميزاتها التي كنتُ أحتفظ بها في ذاكرة التحصيل المعرفيّ الأوّل.
هو اختلافٌ كبيرٌ إذاً بين ما كانَ والآنَ، وجوابٌ قاسٍ يصدُّ المقولات الأثيرة: (إنَّ المسرحَ أبو الفنون)، و: (مصر أمّ الدنيا)، و: (إنْ أردتَ أن تعرف حال مصرَ فزر مسارحها).. ولقد عرفنا الحال الآن، عن مكتباتها ودور السينما فيها ومتاحفها و.. أمّا عن المسرح المصريّ ف(كانْ زمانْ)!
أقولُ أخيراً: في لقاء حميميّ قصير مع الصديق الروائيّ والسيناريست صلاح معاطي، في مبنى إذاعة ماسبيرو بالقاهرة، أتينا على ذكر المسرح والسينما.. وقد عرفتُ منه - وهو المطلع والفاعل في الوسطين الفني والثقافي - أن حالة الركود في الأنشطة الإبداعية الجماهيرية عموماً لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث لمصر؛ وأظنه كان يتوقع أن أبادله الرأي نفسه عمّا يجري في ساحتنا الثقافية السعودية.. غير أنّ الواقع لدينا مختلف جداً، إذ أننا نعيش حالة نشاط غير مسبوقة - على كلّ المستويات الإبداعية - ولكنها لا تزال بمنأى عن (الجماهيرية) التي يجب علينا العمل على استقطابها، حتى تأخذ الدورات المركزية طبيعتها في التنقل الذي - حتماً - سيصل بها إلينا..
ffnff69@hotmail.com
القاهرة