حوار - فوزية محمد الجلال
ارتبط اسمه بالدعوة إلى تغيير وتفكيك الذهنية العربية الغارقة في ثقافة الجهل، وتجلت في كتاباته النقدية مجادلة الظواهر الفكرية والاجتماعية، للخروج بالمجتمع من راهنه الاستهلاكي المتخلف، إلى مصاف المجتمعات المتقدمة ذات التأثير والإبداع والابتكار. أسس لمشاريع فكرية تبحث في الثوابت والمتحولات في التاريخ الاجتماعي والإنساني.
يعمل منذ ثلاثين عاماً على إنجاز مشروع فكري يستهدف تحليل بنية التخلف وتشخيص موانع النهوض، توصَّل إلى نظرية عن الطبيعة البشرية، يقول إنها تجيب على كثير من إشكالات التربية والتعليم والأخلاق وفلسفة الحضارة، فالإنسان في نظره كائنٌ تلقائي يبرمجه الأسبق إليه، إنه يعتبر أن طبيعة الإنسان التلقائية هي المعضلة وهي الحل، إنها المفتاح الذي يكشف أسباب تخلف المجتمعات وعوامل ازدهارها.
أثارت طروحاته جدلا واسعا في الأوساط الثقافية والفكرية والدينية، وانقسمت حوله التيارات بين مؤيد ومعارض.
من أعماله المنشورة: بنية التخلف، وأد مقومات الإبداع، حصون التخلف. وقد صرَّح بأن أجزاء مشروعه الفكري سوف تصدر قريبا وتضم المحاور التالية: عبقرية التلقائية الإنسانية، عبقرية الاهتمام التلقائي، تأسيس علم الجهل، الانتظام والاقتحام، التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية، القيادة والانقياد، العلوم مشتقات فلسفية، الريادة والاستجابة، الإبداع والاتَّباع.
ضيف « الثقافية « هو الكاتب والمفكر الدكتور إبراهيم البليهي، الذي تحدث إلينا عن ثقافة التخلف والتقهقر، والبرمجة الذهنية، ونقد الفكر العربي والإسلامي، وموقفه من الحضارة الغربية ودورها البارز في التأسيس لنقلة كبيرة على مستوى الوعي، ونقده للتربية والتعليم فلسفة الأخلاق العربية، وتفاصيل كثيرة وثرية وربما صادمة للبعض، يحفل بها الحوار التالي:
* تؤكد في كتاباتك بأن الأوضاع العربية أسوأ من التخلف، فالتخلف في نظرك يمثل مرحلة متقدمة جدا قياساً بالواقع العربي الذي تراه أسوأ من ذلك بكثير !! ما الذي يمكن أن يكون أدنى من التخلف...!؟
- إن تنامي تخلفنا واضح على أكثر من صعيد ففي السابق كنا حين نختلف فيما بيننا نردُّ على الكلام بكلام وعلى الكتاب بعشرة كتب لكننا لم نكن نتقاتل بسبب اختلاف الآراء أما الآن فقد صار كل طرف يريد أن يُرغم كلَّ الأطراف الأخرى على أن تعتنق آراءه وأن توافقه على مواقفه وتوجُّهاته أما البديل عن الإذعان الذليل فهو إعلان الحرب عليه والتصفية له وهذا إرغامٌ على ماهو أسوأ من التخلف...
إن الانحدار العربي إلى الأسوأ بات حقيقة صارخة فبشيء من التأمل والمراجعة للأوضاع العربية قبل قرن أو قرنين ومقارنتها بالأوضاع حاليًّا سوف يتجلَّى لنا بوضوح شديد بأننا قد انقلبنا من اتجاه التقدم إلى الاتجاه المعاكس تماماً فنحن في السابق كنا نعترف بتخلفنا ونحاول أن نتجاوزه أما الآن فنحن نحارب عوامل التقدم بمنتهى التصميم والاقتناع إننا نرفض أن نعترف بأننا متخلفون بل بالعكس أصبحنا نعتقد أن الطريق الذي سلكته الأمم المزدهرة هو طريقٌ خاطئ وضال يقود إلى الهلاك وأن على العالم أن يقلَّدنا لا أن نقلده وهذا تغيُّر جذري في الاتجاه، إنه نكوصٌ كُليٌّ فنحن أصبحنا نرفض الاتجاه الحضاري المعاصر كلَّه وهذا يعني ماهو أسوأ بكثير من التخلف.
* التنمية تكون في الاتجاه الجيد فكيف ينمو التخلف؟!
- إن الإصرار على ثقافة التخلف لابد أن يؤدي إلى مزيد من التخلف فكلُّ شيء نتاجُه من جنسه فالعوسج لا يُنتج رُطَباً وكذلك المجتمعات ما لم تُغَيَّر ذاتها فإنها لاتُنتج إلا مما تبرمجتْ به وما تتوارثه وما هي عليه إنها تبقى مستغرقة باهتماماتها وما تُزَكَّيه منظومةُ قيمها، إن طبيعة الإنسان التلقائية تستبقيه مرتَهَناً بما تَبَرْمَج به إن سلوك الإنسان وتفكيره وأفعاله ليست نتاجَ قرارات آنية وإنما هي فيضانٌ تلقائي مما تبرمَج به وكذلك المجتمعات تتحرك آليًّا بالثقافة السائدة وتكون الثمار من نفس الأشجار فمن الطبيعي أن يكون نتاج التخلف مزيداً من التخلف لأن المجتمع يتحرك ولكن باتجاه معاكس لمسيرة التطور فالحركة دائمة، فسواء كانت المجتمعات متخلفة أم مزدهرة فإنها دائمة التحرك ولكن حركتها إما أن تكون نحو الأمام فتنتج المزيد من الازدهار أو تتحرك نحو الخلف فتنتج المزيد من مكوَّنات التخلف، فإذا كان اعتمادها على الفكر الخلاَّق وتؤمن بالتغيير وتتقبَّل النقد وتدرك استحالة الكمال وتسمح بتنافس الاتجاهات وتُقَدَّر صراع الأفكار وتعترف بالأخطاء وتواصل التصحيح وتعرف أنَّ التطور لانهاية له فسوف تكون في حالة صعود مستمر، أما إذا كانت تحارب الفكر المغاير وتستنكر النقد وتتوجَّس من أوهام الغزو الفكري وترتجف رعْباً على هُويتها فإنها تبقى تكرر إنتاج ذاتها وتتخذ ماضيها وتاريخها نموذجاً وحيداً لإدارة حاضرها ومُرشداً لتطويق مستقبلها، إن مجتمعاتٍ تكون على هذا النحو هي مجتمعاتٌ معاقة ثقافيا فالنتيجة الحتمية لهذه الإعاقة الثقافية هي التقهقر لأنها تتحرك في الاتجاه المعاكس تماماً للنمو الإيجابي وكلما صارت أشد خوفاً من التغيرات الحاصلة في العالم زاد ماتفرضه على نفسها وعلى أفرادها من قيود ورقابة وتَحَفُّظات تعوق الحركة وتُربك العمل نحو التقدم فتكون النتيجة هي التحجُّر...
إن المجتمعات في هذا العصر لاتستطيع أن تعتزل العالم وتُغلق على نفسها فهي مضطرة أن تتفاعل سلباً أو إيجاباً مع الواقع العالمي المكتظ بالمتغيرات المتكاثرة وهي إما أن تكون مُتَّسقة معه أو نافرة منه ومغايرة له وهي تتخذ من المواقف والإجراءات مايقتضيه الاتساق مع العالم أو مع مايستوجبه النفور منه والخوف من تغيُّراته، وبهذا يتضح أن العرب ليسوا في حالة تقدم ولا في حالة توقف وإنما هم في حالة تقهقر وانحدار، إن الأوضاع العربية شاهدٌ صارخ على هذا الانحدار المأساوي وليست الأوضاع المأساوية في الصومال والسودان واليمن والعراق سوى نماذج للتدهور الفظيع المرعب الذي سيكون مصير أي مجتمع عاجز عن التفاعل الإيجابي مع متغيرات العالم...
* نحن جزءٌ من العالم الإنساني، فما يجري في العالم يؤثر علينا، فقد صارت المجتمعات متداخلة وذات علاقات ومصالح متشابكة وتسير كلها في اتجاه التقدم لكن بمعدَّلات مختلفة غير أن ما تقوله يتعارض مع ذلك..؟!
- لا أهمية لما يجري في العالم وإنما الأهمية في الذي يحصل داخل كل مجتمع بمفرده، فأوضاع الشعوب المتخلفة قد أثبتت أن التغيرات العالمية مهما بلغت من القوة والتنوع والكثرة فإنها تبقى ضئيلة التأثير في المجتمعات التي ترفض التغيُّر وتصرُّ على التمسك بأسباب تخلُّفها، لذلك فإنه يمكن ترتيب مجتمعات العالم بالنسبة للحضارة المعاصرة في خمسة مستويات:
المستوى الأول تحتله بجدارة وتعيشه المجتمعات التي ابتكرتْ مقومات الازدهار الثقافي ثم الحضاري لأنها هي صانعةُ التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية المعاصرة وهي: دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا...
ثم تنفرد اليابان بأنها الدولة الأسبق للاحتذاء بالغرب واللحاق به ثم منافسته على الذُّرى وسَبْقه على المراكز الأولى في الازدهار العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي والاجتماعي...
ثم تأتي في المرتبة الثالثة الدول التي تطورت بسرعة استثنائية خلال العقود الثلاثة الأخيرة فصارت تنافس الغرب واليابان مثل: سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية...
أما المستوى الرابع فقد وثَبَتْ إليه بكل كثافتها السكانية العظيمة وبجمع طاقتها الإنتاجية الهائلة المجتمعاتُ التي أدركتْ أخيراً موانع النهوض وسَعَتْ حثيثاً للتخلص من هذه الموانع وتعرَّفَتْ على عوامل التقدم واجتهدتْ للالتزام بها مثل: الصين والهند والبرازيل وبلدان أخرى وهي الآن تقترب من تحقيق ازدهار عظيم سيغيَّر كل شيء في العالم، فهذا الازدهار الضخم المفاجئ سيصيب المجتمعات الغربية بالإرباك لأن الناس في الغرب قد اعتادوا على مستوى من العيش وعلى معدلات في الأجور وعلى أسلوب في العمل لايسمح لهم بمجاراة المجتمع الصيني والمجتمع الهندي بكثافتهما السكانية الهائلة وانخفاض معدَّل الأجور فيهما وقدرتهما على غزارة الإنتاج وإغراق الأسواق بأرخص التكاليف...
أما المستوى الخامس في الوضع البشري فتعيشه المجتمعات التي مازالت خارج النسق الحضاري المعاصر ولم تدرك بعد مصدر الخلل في ثقافتها وأسلوب تفكيرها وفي إدارة شؤونها ولم تعترف بنقطة بداية التحرك نحو الأمام بدلاً من التحرك نحو الخلف، فهي الآن خارج التاريخ لأنها تنكر حصول تغيرات نوعية في الثقافة الإنسانية وتصرُّ على أنها وارثةٌ لأعظم الحضارات وأنها تملك منذ عصور سحيقة المقومات الفريدة الكاملة وتَنْسُبْ عجزها الراهن إلى عوامل خارجية فتتهم الأمم الأخرى بالتآمر عليها ومنعها من تحقيق النمو، وهذه المجتمعات لاتبقى متخلفة كما هي بل تزداد تخلُّفا لأنها تحرص على أن تُعيد برمجة ذاتها وتُوهم أجيالها بأنها الأرقى وبأن العالم يتآمر لزحزحتها عن أسباب امتيازها فتُغلق الأبواب وتَسُدُّ النوافذ وتقيم المزيد من الحصون والقيود والمتاريس وتملأ أذهان أفرادها بالخوف من الآخر وتدفعه إلى الرفض التلقائي لأي فكر خلاَّق وتورث لأجيالها كل هذه الحواجز النفسية الفظيعة المكبَّلة فمع كل جيل تتسع وتتعمق الهوة التي تفصل هذه المجتمعات عن مسيرة التقدم السريعة...
أليس التعليم هو العامل الأول في التغيير ؟!وقد اهتم العرب بالتعليم فعمَّموه منذ وقت مبكر وأنشأوا الجامعات ومراكز البحث العلمي ومعاهد التدريب..؟!
- إن تصوُّراتنا نحن العرب عن مقومات النهوض مازالت خاطئة بل معكوسة تماماً كما أن رؤيتنا عن التخلف هي رؤية مغلوطة بنفس المستوى فالتخلف هو الأصل لأي مجتمع ولأي ثقافة، فلا يمكن أن يحصل الانعتاق منه بالمعارف الاجترارية ولا بالاهتمامات الاضطرارية ولا بالجهد العادي ولا بالعمل الرتيب ولا بالحركة الدائرية ولا بالكفايات المبعثرة وإنما لابد من حصول توجُّه عام يحشد طاقة المجتمع في اتجاه واحد لينفكَّ من أسر التخلف فيتحقق له أن يزدهر ثقافيًّا ثم حضاريًّا. إن الإقلاع الثقافي لأي مجتمع يشبه في متطلباته متطلبات الطائرة للانفكاك من جاذبية الأرض لتُقلع في الهواء فالتقدم تطورٌ نوعيٌّ وليس امتداداً طبيعيا لما هو سائد إنه إعادة تكوين للذات وللهوية...
إن التخلف ليس عَرَضاً طارئاً بل هو واقعٌ أصيل وراسخ وعنيف المقاومة وشديد التركيب والتعقيد والتماسك، إنه بنية قوية مُصْمتة وقوية وذات تحصينات تلقائية صامدة، إنها تملك آليات دفاعية فاعلة وشرسة لا يمكن اختراقها إلا بجهود استثنائية كثيفة ومنظَّمة وشاملة لذلك لا يصح أن نستغرب وجوده وكأنه شيء طارئ فهو كيانٌ عريق الوجود وعميق الأصالة فأصالته وأولويته وهيمنته التلقائية المطلقة تقتضي تلقائيًّا استمراره إلا إذا أُوقِف تدفُّقُه التلقائي بصوارف أقوى من هذا التدفق التلقائي فلا معنى للسؤال عن حصوله إلا إذا كان السؤال بقصد البحث عن وسائل جديدة لتغييره كسؤالنا كيف نستطيع تخضير الصحراء فالتصحُّر واقع ثقيلٌ أما التخضير فيتطلب إمكانات جديدة وجهوداً اسثنائية، إن الشيء الذي يبقى على أصله لا يصح السؤال عن سبب بقائه فلا يمكن أن ننتظر من الصحراء أن تنقلب ذاتيًّا إلى جناتٍ خضراء وكذلك المجتمع المتخلف لا يصح أن نتوقع أن يتغيَّر ذاتيًّا نحو الأرقى مهما بلغتْ الإضافات فالبنية تستقوي بالإضافات لكنها لا تتغيَّر بها.
نعود إلى السؤال: هل هناك ما هو أدنى وأسوأ من التخلف..؟!
- إن الأسوأ من التخلف هو التقهقر وتنمية موانع النهوض وتقوية حصون التخلف. إننا حين نقارن بين جَيَشان الرغبة الشعبية العربية في التقدم منذ أن صُدموا بتقدم الغرب حتى هزيمة عام 1967م ونقارنه بالرفض العنيف لكل مقومات الازدهار حاليًّا ندرك فظاعة التقهقر الذي انحدر إليه الوعيُ العربي بعد هذه الهزيمة الشنيعة..
فحين جُوبه العربُ بتقدم الأوربيين قبل أكثر من قرنين بعد حملة نابليون على مصر فُجعوا بتخلُّفهم واتَّقَدَتْ رغبتهم في التغيُّر ومضى القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين والأمة العربية تتحفَّز للوثوب فاستغلَّ العسكريون الانتهازيون ذلك الجيشان الشعبي العارم الذي أحدثه إدراك الشعوب العربية فظاعة تخلُّفنا وتقدُّم غيرنا فركب الانقلابيون الموجَة الزاخرة فتوالت الانقلابات العسكرية واندفع الناس في تأييدها خصوصاً ما أسماه الانقلابيون المصريون (ثورة يوليو). لقد مَنَح العربُ جمال عبد الناصر تأييداً عارماً كان بإمكانه أن يستثمره وأن يعيد تكوين الثقافة العربية حتى يجعلها قادرة على التفاعل الإيجابي مع حضارة العصر، لكنه رغم طول المدة التي أتيحت له في الحُكْم ورغم أن الفترة كانت غنية بالتغيرات العالمية الباهرة إلا أنه أخفق إخفاقاً ذريعاً في تحقيق التقدم؛ فأضاع على نفسه وعلى العرب فرصة تاريخية عظيمة حاسمة. لقد كان الاستبداد المطْلق هو العلة التي أزهقت التجربة الناصرية؛ فقد صادر الحريات وكمَّم الأفواه وكسَّر الأقلام واحتكر الأمر والنهي. لقد كان عبد الناصر يملك مزايا قيادية كثيرة، لكن الاستبداد أزهق كل هذه المزايا، إضافة إلى أنه لم يكن يملك رؤية حضارية ناضجة عن كيفية التعامل مع المتغيرات الحضارية..
إن إخفاق عبد الناصر كانت له على كل العرب نتائج نكوصية مدمَّرة؛ فنحن العرب نندفع مثل الطوفان في هذا الاتجاه أو ذاك ثم إذا اصطدمنا بالفشل لا نعيد النظر في وسائلنا وطريقة تفكيرنا وأساليب عملنا وفي الرؤية الكليلة التي كانت السبب في الإخفاق، وإنما نرفُض الاتجاه كلَّه فنعود إلى الاتجاه المعاكس تماماً؛ فقد توهَّمنا أن الانقلابيين قد تبنَّوا الأفكار التقدمية كما هي في نصاعتها في البلاد التي أنتجتْها، وأن هذه الأفكار هي التي أخفقتْ، وهذا يعني في نظرنا أن الملجأ الصحيح هو العودة إلى التراث العربي بكل تراكماته المحبطة فاندفَعْنا متقهقرين في رفْض عنيد وغبي لكل مقومات التحديث!!! إنَّ الأمة التي تدرك تخلُّفها وتحاول أن تتجاوزه سوف تحقق ما تسعى إليه إذا هي أخذتْ بوسائله الصحيحة. أما الأسوأ من ذلك فهو أن ترى المجتمعاتُ المتخلفة أن عليها أن تمعن في التمسك فيما كان سبباً في تخلفها وترفض أي تحديث حقيقي، وهذه هي حال العرب. لقد تجاهلوا أو جهلوا كل التغيرات النوعية التي طرأتْ على الحضارة الإنسانية، وتعاموا أو عَموا عن كل ما تزخر به الدنيا من منجزات حديثة في مجالات الفكر والفلسفة والسياسة والتنظيم والاجتماع والعلم والطب والتقنية والثروة؛ فالعالم يعيش الآن حضارة استثنائية لا يستطيع الدخول فيها إلا الأمم التي تدرك مقوماتها وتلتزم بها..
لكنَّ المجتمعات العربية تواصل العمل لتتجاوز التخلف؛ فقد نفَّذَت العديد من خطط التنمية؛ وبذلك لا يصح القول إنها تتقهقر..؟!
- رغم أن دول الخليج قد استفادت من عوائد البترول وحقَّقَتْ مستوى عالياً من الرخاء إلا أنه رخاءٌ مؤقَّت؛ فهو يعتمد على مصدر ناضب. إن مجتمعات الخليج ذات اقتصادٍ ريعي، وليست ذات اقتصادٍ إنتاجي؛ فهي تعتمد على مخزون أرضها من البترول وهو مخزونٌ سينتهي، أما المجتمعات المزدهرة فقد حقَّقت ازدهارها المطرد، وأنجزت تنميتها المستدامة باستثمار قابليات الإنسان: فكراً وعلماً ومهارة والتزاماً.. فهذا هو المورد الذي لا ينضب. ومن ناحية أخرى فإن التقدم حركةُ إقلاعٍ وإفلاتٍ من قبضة التخلف القوية، إنه وُثُوبٌ نحو الأعلى والأزهى. إن المجتمعات المتخلفة تنخدع بحركتها الدائرية، وتتوهم أنها بهذه الحركة تتجاوز مرحلة التخلف، وأنها تسعى نحو التقدم، وتغفل عن أن تحقيق الازدهار يتطلب تغيرات نوعية في طريقة التفكير وفي منظومة القيم وفي الاهتمامات وفي الإطار الفكري الموجَّه، كما يتطلب حشد طاقة المجتمع في اتجاه واحد. إنَّ حركة التقدم الصاعدة تختلف نوعيًّا عن مكوَّنات الحركة التلقائية الأفقية الدائرية..
كيف تفسر تجربة ماليزيا وتركيا؟ كيف أمكنهما الانفكاك من البرمجة الذهنية كما تصفها؟
- تجربةُ ماليزيا تجربةٌ فريدةٌ؛ لأنها نَهَضَتْ بواسطة قيادة واعية قادرة على حشْد طاقة المجتمع. إنّ مهاتير محمد قائدٌ استثنائي، وقد اعتمد بشكل رئيسي على العنصر الصيني؛ فالصينيون يمثلون نسبة 33 % من الشعب الماليزي، لكنهم يمثلون الطاقة الرئيسية الفاعلة إبداعاً وإنتاجاً واحتشاداً للتنمية المستدامة، ثم يأتي الهنود في المرتبة الثانية من ناحية الإسهام في تحقيق الازدهار الماليزي، أما الملاويون فقد كان إسهامهم ضعيفاً، وهنا يتضح الفرق النوعي والأثر الحاسم للبرمجة الثقافية في الطفولة وما بعدها؛ فالصينيون والهنود والملاويون قد درسوا في المدارس نفسها، وتعلموا في الجامعات نفسها، وتلقوا المعلومات نفسها، لكن البرمجة الثقافية للصينيين تختلف عن برمجة الهنود، كما أن برمجة هؤلاء وأولئك تختلف عن برمجة الملاويين، ومن هنا جاء هذا التفاوت الشاسع في مستوى الفاعلية؛ فالإنسان كائنٌ تلقائي؛ فهو يقاد بما يتبرمج به وليس بما تلقَّاه كُرْهاً أو تعلَّمه اضطراراً. أما تركيا فقد أضاع العسكريون الكماليون فُرَصاً عظيمة كانت متاحة لتحقيق الازدهار، لكن تركيا الآن تحاول أن تتدارك ما فاتها وأن تتخلص من قبضة العسكريين الذين قيَّدوا حركتها وأوصدوا أبوابها وجمَّدوا طاقتها وصادروا حرياتها، فإذا تحقق لها هذا التدارك وهذا الخلاص فإنها موعودة بازدهار عظيم سيصبح نموذجاً للمجتمعات الإسلامية..
أطلقت نظرية (العقل يحتله الأسبق إليه) أو (الإنسان التلقائي) كيف تقرؤها على العقل العربي؟ ما الذي سبق إليه؟
- إنَّ الإنسان كائنٌ تلقائي. إن هذا هو مفتاح الطبيعة البشرية. إن هذه نظرية ثورية توصَّلْتُ إليها وأسَّستُ عليها مشروعاً فكريًّا شاملاً. لقد أعطتني هذه النظرية مفتاحاً لفهم وتعليل الكثير من الظواهر الإنسانية: الثقافية والتاريخية والسياسية والاجتماعية والحضارية والإبداعية والتعليمية. وقد قمتُ بشرح ذلك تفصيلاً في مجموعة من الكتب ستصدر قريباً إنْ شاء الله، وإذا أتيح لهذه النظرية المفتاحية ما تستحقه من اهتمام فسوف تتغيَّر بها أمور كثيرة في كل المجالات الإنسانية والتنموية والحضارية..
قلتَ في إحدى محاضراتك إنه لا يوجد مفكر عربي واحد يستحق القراءة، بل أكدت أن كل كتابات الدكتور (عبد الوهاب المسيري) و(إدوارد سعيد) وأمثالهما كتابات استعدائية على الغرب، واصفا إياها بالكتابات المسيئة، ألا تراه رأياً مجحفاً ومحبطاً؟ ومن هم الكتّاب الذين تنصح بالقراءة لهم عربا وغربا؟
- لا بدَّ من ربط ذلك القول بالمناسبة التي استوجَبَتْهُ؛ فقد كنتُ أتحدث عن الحضارة الغربية بوصفها حضارة استثنائية؛ فَسُئلتُ وماذا عن حضارتنا العربية..؟! فالسؤال يتضمَّن اعتراضاً ضمنيًّا على ما أكدتُه من أن الحضارة الغربية هي حضارة استثنائية، وأنها ليست امتداداً للحضارات القديمة؛ فكان لا بدَّ من التأكيد أن مرجعية حضارة العصر هي الثقافة الغربية، والممثلون لها من الفلاسفة والمفكرين والعلماء والنقاد والمبدعين، فالذي يهمه فهم الأوضاع والأفكار العالمية لن يجدها إلا عندهم أو عند الذين تثقفوا على الثقافة الغربية من مفكرينا وعلمائنا ونقادنا من أمثال: على الوردي وعلي حرب ومحمد عابد الجابري وعبد الله العروي وزكي نجيب محمود وغيرهم..
أما عبد الوهاب المسيري فقد كان ماركسيًّا وتشبَّع بالفكر الماركسي المناوئ للغرب الحر؛ فقد تراكم في نفسه كُرْه الاستعمار فربَط هذا الاستعمار بالرأسمالية وبالبلاد التي تمثلها، كما كانت أيديولوجيته الماركسية تؤجج هذه الكراهية؛ فقد كانت المجتمعات الحرة في صراع مع الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي الذي كان يجمعه حلف وارسو، ولما تخلَّى المسيري عن الماركسية لم يتخلص من هذه العوائق النفسية والفكرية بل بقي مشحوناً بكُرْه الغرب؛ فلم يكن موضوعيًّا في دراساته ولا في آرائه، بل كانت تهيمن عليه عاطفة غاضبة مجتاحة فأسهم في نكسة الوعي التي أصابت المجتمعات العربية بعد هزيمة عام 1967م، وما يقال عنه أيضا يقال عن إدوارد سعيد؛ فقد أسهم في توسيع الفجوة بيننا وبين حضارة العصر، ونسي أن قدراته بُنيَتْ بمكونات غربية، وأن كل الأدوات الفكرية التي استخدمها في نقد الغرب قد اكتسبها من هذا الغرب نفسه، كما أن الغرب هو الذي علَّمه واحتضنه طالباً ثم أكْرَمَه أستاذاً في جامعاته وكاتباً في صحفه ومحتَفًى به في دور نشره وعند قرائه، كما نسي أنه لولا اهتمام الغربيين به وبفكره لما كان بهذه الشهرة العالمية المدويَّة؛ فلو بقي في حدود العالم العربي القاحل لما عرفه أحدٌ خارج دائرته الضيقة المحدودة..
تكيل نقداً حاداً في كتاباتك للتعليم العربي بل ذهبت إلى القول إنه من أكثر المشروعات التنموية فشلاً. حكم يبدو قاسياً، كيف توصلت إليه؟
- إن التعليم هو أضخم مشروعٍ عربي تحديثي؛ فهو مشروعٌ مستمرٌّ في إنتاجه وفي ضخامة الإنفاق عليه وفي عدد العاملين، فيه كما أنه من الناحية النظرية هو أقرب المشروعات العربية للطابع العصري، لكن مخرجاته جاءت هزيلة بل غاية في الهزال، ويعود هذا الهزال المفْرط إلى أن التعليم محكومٌ بالبيئة وليس حاكماً لها؛ فهو يكرَّس التخلف ويساهم في ترسيخه وتوطيده بعكس ما يتوهم الكثيرون..
من هم الذين ساهمت كتاباتهم وربما اتجاهاتهم في تكوينك وتأسيسك الفكري وثروتك الثقافية الهائلة؟
- لقد تتلمذت على الفكر الغربي بتجلياته العظيمة والثرية والمتنوعة كافة؛ فقرأت الفلسفة الغربية منذ نشأتها وتابعتُ مراحل تطورها منذ انبلاجها في اليونان في القرن السادس والخامس قبل الميلاد حتى يومنا هذا، كما قرأت تاريخ الحضارة الغربية وحرصت على أن أطلع على علوم الغرب وأفكاره وآدابه، فما من كتابٍ تأسيسي في اللغات الأوربية إلا وله في اللغة العربية عدد من الترجمات كنت أقرأ المفكر وأقرأ خصومه ومعانديه وأنداده فأدركت أن التطور الحضاري ما هو إلا ثمرة صراع الأفكار؛ فالمجتمع الذي يرفض هذا الصراع الفكري سيبقى حتماً مرتَهناً بالجمود والتحجُّر؛ لأن تاريخ الحضارة يؤكد ذلك بوضوح شديد.
ألا يضايقك وَصْفُ البعض لطروحاتك الجريئة الصادمة للسائد بأنك نسخة أخرى من فكر عبدالله القصيمي؟! وبماذا ترد...؟!
- إن السلوك البشري ليس إلا سلسلة من العادات ونحن العرب قد اعتدنا بأن نطلق الأحكام جزافاً مدحاً أو قدحاً.. رفضاً أو قبولا..
لقد توارثنا ذلك على امتداد الأجيال وما زلنا كذلك إننا نرتجل تقييم الأشخاص والأفكار والرؤى والمواقف من غير أي إمعان ولا تحقُّق ولا دراسة ولا شعور بمسؤولية الأحكام الجائرة وهذا نتاجٌ ثقافي متوارث، إنه امتدادٌ لثقافة الهجاء والمفاخَرة والنقائض إن الحقيقة الموضوعية ليست من قيمنا المعتادة فليس أسهل عندنا من النفي الجازم لما لم نألفه والتأكيد القاطع لم ألفناه لأن التحقُّق ليس من أساسيات تنشئتنا بل ولا من هوامش هذه التنشئة فالذي يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة لايمكن أن يبحث عنها فهو جاهزٌ دائماً للقول الفَصْل!!...
إن الالتزام بالتقييم الموضوعي لايُكتسب تلقائيًّا وإنما لا بد من التنشئة عليه والتآلف معه حتى يتحقق الاعتياد عليه ليصير سلوكا عفويًّا كما أنه يحتاج إلى حرصٍ شديد وجهدٍ كثيف في البحث والتدقيق والاستقصاء، إن الناس في المجتمعات العربية قد تبرمجوا واعتادوا على الأحكام المسبقة المرتجلة لأنهم يعتمدون في الغالب على ثقافة المشافهة، إنهم يتحدثون عن كل شيء من غير أية معرفة ممحَّصة فنحن العرب نحبُّ ونكره ونمدح ونقدح ونوالي ونعادي بالتوارث وبالمحاكاة وبالشائعات وبالسماع وليس بالتحقُّق إننا نماثل شاعرنا الذي عشق هنداً قبل أن يراها فأصابه السَّقَم هياماً بها وفوجئ حين رآها بأنها لاتستحق ذلك الهيام:
سمعتُ بمدح الناس هنداً فلم أزل
أخا سَقَمٍ حتى نَظَرْتُ إلى هند
لقد كابد العشق لامرأة لم يَرَها وإنما عَشِقَ ما قاله الناس عنها ونحن العرب أكثرنا على هذه الشاكلة يُؤَجَّجنا الكلام ويطفئنا الكلام إننا نندفع خلف ما يقال وبما تَبَرْمَجْناه فنكره أو نحب ونحقد أو نعشق ونعارض أو نوالي ونحارب أو نؤازر ونذم أو نمدح ونُسَفَّه أو نُشيد ونَشْتُم أو نبجل بل قد نقتُل أبرياء استجابة للكلام أو خوفاً من الكلام من غير أن نقوم بأي استقصاء ولا تثبُّت إننا طوفانٌ من التدفُّق التلقائي غير الواعي إننا ننساق مع الطوفان فنعادي المسالمين أو نقتل الأبرياء الغافلين وبالمقابل نعشق من لم نَرَه ونستميت في هذا العشق لكائنٍ لم نشاهده ولم نعرفه مباشرة وإنما عشقناه واستغرقنا في عشقه بما سمعناه عنه إن التلقائية العمياء تتحكَّم في عقولنا وتتصرف في عواطفنا وتحدَّد مسارات سلوكنا وتنساب منها طريقة تفكيرنا وأنواع اهتماماتنا...
هذا يستوجب التساؤل قبلُ أن يتواصل القول عن القصيمي.. فما هو سبب هذه الظاهرة وهل هي ظاهرة عربية أم إنسانية..
- هي في الأساس ظاهرة بشرية فالإنسان كائنٌ تلقائي إنه مخلوقٌ مقلَّد وليس متحققًّا بنفسه إنه يَقْبَل تلقائيًّا مايشيع قوله في مجتمعه إنه يفكر بواسطة ماتَبَرْمَج به في طفولته إنه يتشرَّب من البيئة وبشكل تلقائي طريقة التفكير ومعايير الاستحسان والاستهجان والاهتمامات والعادات والتقاليد والحب والكره والقبول والرفض والمعاداة والموالاة بل إنه يكره مجتمعات بأكملها ويحقد عليها ويتمنى لها الهلاك لمجرد أنه تربى على هذا الكُرْه والحقد إنه لا يُخضع ماتبرمَج به للتحليل العلمي ولا للنقد الموضوعي ولا للمراجعة الفردية إن الإنسان بطبيعته التلقائية ليس باحثاً عن الحقيقة وإنما هو مدفوعٌ بمنظومة من الدوافع الغريزية ذات النشاط التلقائي ثم تمتزج هذه الدوافع التلقائية بالبرمجة الثقافية فالإنسان بطبعة وببرمجته مندفعٌ مع السائد ومع أهوائه ورغباته ومصالحه وما اعتاد عليه وما تبرمج به أما البحث الموضوعي عن الحقيقة فهو ليس من مكوَّنات الإنسان الطبيعية وإنما هو اكتسابٌ طارئ ومازال اكتساباً محدود الانتشار وضيَّق النطاق إنه أبرز التغيرات النوعية التي طرأت على الفكر الإنساني ومازال الاهتمام بالتحقُّق من انشغالات القلة، أما الأكثرية فهي تتبرمج بما هو سائد في البيئة وتندفع تلقائيا مع أو ضد سواء كان حقًّا أم وهْماً إن أوضاع المجتمعات وسلوك الناس في كل مكان يؤكد هذه الحقيقة البشرية العامة بمنتهى الوضوح ولكننا نحن العرب نتوارث آفة ثقافية أخرى ربما نختلف بها عن أمم كثيرة وهي التأثُّر الشديد بالكلام ذاته والافتنان باللغة ذاتها والاستغراق فيها والانشغال بها عن المضمون وبذلك تضيع الحقيقة التي هي بطبيعتها لا تنجلي إلا للذين يكافحون من أجلها وما أندر المكافحين من أجل الحقيقة!!...
نعود إلى سؤالنا الأساسي ومايقال من أنك نسخة أخرى من عبدالله القصيمي فما هي الصفات المشتركة بينكما التي جعلت هؤلاء البعض يقولون ذلك..
- أجزم أن الذين يقولون هذا الكلام لم يقرأوا ماكتبتُ كما أنهم لم يقرأوا ماكتب القصيمي فلا يجمعنا سوى الإحساس العميق بفظاعة التخلف العربي والاقتناع بالأسباب المكرَّسة له، إن ارتجال العرب للأحكام معضلة كبرى فالقول الأسبق هو الذي يحتل عقولنا ويوجه تقييمنا للأعمال والرجال والأفكار والمواقف والرؤى فإذا أطْلق أحدهم قولاً ثم شاع تداوله من غير فحص فإنه يصير من الأحكام العامة الشائعة... إننا نحن العرب لا نختبر بأنفسنا شيئاً وإنما تقودنا التلقائية ونعتمد الارتجال فلا نتحقَّق من شيء ولا نطلب الدليل على شيء وإنما ننغمر في طوفان السائد بهوس واستبسال ولكن بالمقابل نحن نتبرمج بكره من لا نعرفه ونستميت استغراقاً في هذا الكُرْه لكائنٍ لمن نشاهده ولم نتعرف عليه وإنما نتشبَّع تلقائيًّا بالكُرْه له والحقد عليه فلا نصغي لمن يخالف ما ألفناه ولا نتدبَّر في أي أمر أو وضع لم نعتدْ عليه فالذي يخالف السائد لا نقْبل منه أي دليل ولا نستجيب لأي برهان ولا تؤثر فينا أية حقائق، إن هذه هي المعضلة الكبرى التي عجزتْ العقول عن إيجاد حل لها...
وكذلك ما نقوله عن الناس مدحاً وقدحاً إن الذين يتحدثون عن عبدالله القصيمي لم يقرؤوه لقد كَتَبَ آلاف الصفحات وأصدر عشرات الكتب لكن لم تصدر عنه حتى الآن أية دراسة موضوعية شاملة إنني هنا لا أقف معه ولا أقف ضده ولست بصدد تقييم فكره ولكنني أتحدث عن ظاهرة من أخطر ظواهر العقل العربي المأخوذ دائماً بالأحكام المسبقة المرتجلة في تقييم الأفكار والأعمال والأفراد دون تحقُّق، إن العرب المادحين والقادحين للقصيمي لم يقرأوه وإنما يرددون أحد عناوين كتبه (العرب ظاهرة صوتية) إننا مازلنا مأخوذين بثقافة المشافهة والارتجال فلا نقرأ من نكون معه للتحقق من ادعاءاته وكذلك لا نقرأ من نكون ضده لنتأكد من حقيقة أفكاره وإنما نندفع خلف ما يُشاع عن أي شخص أو شيء أو عمل إننا نتلقاه مشافهة فلا نحلله ولا نمحصه وإنما نرفضه تلقائيًّا أو نقبله تلقائيًّا اندفاعاً مع الرأي الشائع لا يختلف في ذلك متعلمونا عن الأميين منا...
هذا كلامٌ خطير فما هي الدلالة الأكثر أهمية في هذه المواقف والأحكام؟
- إن الإشكال الحقيقي المعرفي والأخلاقي هو في الدلالة الثقافية العامة لهذا المنهج في التعامل مع الأفكار والأشخاص والأعمال فنحن العرب نرفض إجمالاً وتفصيلاً أو نَقْبل إجمالاً وتفصيلا فالشخص ابتداء إما أن يكون مرفوضاً أو يكون مقبولاً وهذا منهجٌ يتعارض مع أبجديات المنهج العلمي الحديث فالعلم لم يَعُدْ يقبل الأحكام الكلية القاطعة والدائمة وإنما كل مسألة تناقَش بمفردها معزولة عن قائلها فالحق يجب قبوله بغض النظر عن قائله أما الخطأ فيجب رفضه مهما عَلَتْ مكانة قائله أو فاعله، إن الأحكام في الحياة الإنسانية تنهض على مبدأ التغليب والترجيح فالكمال محالٌ فلا شيء يتمحَّض للخير ولا شيء يتمحض للشر ولا يمكن أن يكون قولاً أو فعلاً أو عملاً من أعمال البشر كاملاً كمالاً مطلقا وإنما المعيار هو الترجيح أو الموازنة بين: المناقب والمثالب..بين المزايا والعيوب..بين النفع والضرر.. بين الإثبات والنفي.. فيجب أن يستفاد من الجوانب المضيئة من فكر أي شخص مهما كانت جوانب أخرى عنده مظلمة أو غير مستساغة أو لا تتفق مع ما نعتبره الحق...
يأخذ عليك البعض أنك لا تتفاعل مع الذين يكتبون عنك أو يعلقون على أفكارك بل البعض يرى أنك تتفاعل مع المادحين لكنك تُهمل القادحين..
- أبدأ بالجزء الأخير من سؤالك لأوكد بأنني أُقَدَّر الجميع لكنني لا أَرُدُّ على القادحين ولم يسبق إطلاقاً أن كتبت شكراً أو ثناء على المادحين فليس صحيحاً أنني أتفاعل مع هؤلاء وأُهمل أولئك بل الواقع إنني لا أَرُدُّ على القادح ولا أكافئ المادح فأنا مشغولٌ إلى درجة الاستغراق في إنجاز منظومة من الكتب كمشروع فكري مترابط ولا أريد أن أنشغل عنه بأي شيء، إنني لست في خصومة مع أحد ولكن لا يزعجني أن يكون لآخرين آراء أو أفكار مغايرة فالمهم بالنقد أن يلتزم بالموضوعية وأن يحصر النقاش في الأفكار لأنه حين يتجاوز الفكر إلى الشخص يتحول إلى عدوان وهجاء وشتيمة وليس نقداً...
قلتَ في أحد الحوارات المتلفزة بأن من أروع الأشياء التي تثير الانتباه وتدعم الإيمان وتجعلك تبادر إلى تمجيد الخالق: ( العقل الخلاَّق وجمال المرأة الأخَّاذ) فما هو الجامع بينهما؟
- نعم إن العقل الخلاق ظاهرة عظيمة مدهشة ويقترب منه في الروعة الجمالُ المُشع فكلاهما من آيات الخالق العظيم لقد أَمَرَنا اللهُ سبحانه بأن نتفكر في أنفسنا وجَعَلَ هذا التفكُّر والتدبُّر سبباً في تعميق الإيمان وترسيخ اليقين، إن الإنسان هو أعظم المخلوقات فهو آية الله العظمى ولكنه يكون أشد تجسيداً للعظمة إذا تجسَّد في جيشان العقل الفائق الخلاق وعَبَّرَتْ عنه العبقرية المضيئة النادرة وكذلك تتجسَّد هذه العظمة الباهرة في جمال المرأة فالجمال قيمة عليا وهو يكون أشد سطوعاً وأوضح تجلَيًّا في الجمال الأنثوي العذب وبسبب ذلك فإنني ما قرأت إبداعاً عظيماً في الفكر أو الشعر أو غيرهما من نواتج الذكاء الخارق أو العبقرية الخلاقة إلا ازددتُ إيماناً بالخالق المبدع وكذلك مارأيت روعة الجمال متجسَّدة في امرأة ناعمة متدفقة الأنوثة إلا أدركتُ أن هذه إحدى الآيات الناطقة بالقدرة الإلهية العظيمة لذلك تشدُّني العبقريات الخلاقة ويبهرني الجمال الأخَّاذ.