اجتازت شاعرتنا هاجس الليل وحده.. لم تعد تخيفها وحشة ظلامه.. ولا تراقص أشباحه.. عقدت معه صفقة وئام وسمر.. وراحت تهاتفه.. وتستثمر صمته لصالح صوتها الذي لا يؤمن بالهمس.. وإنما بتحريك الساكن كي يطرد السبات من حوله.. في هتافها البداية.. وهل أجمل من بوح الحب بداية في دنيا العاشقين؟!
هاتف نادى بآفاق السماء
في سكون وضياء وجلاء
طاهر يعبق فيضا عاطرا
ملك ألقاه وضاء النقاء
طاف بالكون وألقى رحله
في رحابي عندما طاب المساء
وتلتفت إلى الناس من حولها تغمرها فرحة اللقاء.. على إيقاع النغم.. ناشدة ومناشدة إياهم الإنصات
أيها الناس تعالوا واسمعوا
نغما يشدو بقول الحكماء
أشرعوا للحب بابا، واهتفوا
إنما بالحب يحيا العقلاء
ومن الهتاف إلى القطاف في حقل الشعر وفي عالمه الوجداني..
ذكرى تمر وبالأشواق تأتمر
فأي سر لها يبدو ويستتر؟
العاشقون مضوا نحو الهوى قدما
أحوالهم من جوى تذوي وتنتحر
وتتساءل:
فأي شيء لنا الأشعار تكتبه
صمت الهوى العذب أم فجر سينكر؟
وتجيب دون أن تسأل:
يسطر العشق تاريخاً ومعجزة
لسرد قلب بصوت الحب ينتصر
وتنحني كبرياء الحب في ألق
إذا بدأ العاشقون اليوم قد كبروا
في الشطر الأخير شيء من خلل يهز توازنه.. وصمته.. (إذا بدا العاشقون اليوم قد كبروا) الهمزة لا مكان لها وزنا ومعنى. وتنهي مقطوعتها الرومانسية ببيت مشحون بالاعتذار من الشعر نحو المشاعر وقد أغرقت واستغرقت كل ما تحمله من تجارب..
يا موكب الشعر عذراً من تجاربنا
في عالم الشعر ذنب الحب يفتقر..
الحب يا شاعرتنا أداة طرح وفرح وترح نحملها مشاعرنا حتى منها ذلك الخيالي الذي لا يحتمل التصديق.. أليس أعذب الشعر أكذبه؟!
لعيون الحب لغة تسبق في خطابها لغة اللسان.. إنها النظرة.. والسهم.. والقتل اللذيذ.. هكذا قال عنها الشاعر
إن العيون التي في طرفها حور
قتلننا.. ثم لم يحيين قتلانا..
ماذا عنك أنت وحديث عيونك؟!
آن يا قلب للهوى الدفاق
أن تراه العيون في الآفاق
هذه الآهة الحزينة رجع
لحديث يثور في أعماقي
أشعلته العيون لحنا شجيا
عامريا معطر الأنساق
وتسترسل في توصيفها وتوظيفها للمشهد الحالم.. والمتمرد..
امطري يا غيوم كل حنين
إنه القلب لا يطيق احترافي
قد وهبت العشاق أحلى قصيد
وكسرت الأسوار صوب انعتاقي
شاعرتنا المتجلية تعشق الترحال.. حياتها سفر.. ومشاهد وشواهد سفر.. تلتقط هنا صورة وهناك أخرى وهنالك ثالثة.. وتقدمها من خلال إطارها.. واختيارها.. تعشق الريف.. تستهويها الحقول.. تهوى الطبيعة البكر.. عن غادة الريف لها هذه اللقطات:
أغادة الريف هل لحن ستعزفه
تلك القصائد؟ أم صمت تغشاها؟
أغادة الريف ينهي في ضمائرنا
فأنت من بالهوى تعطين معناها
مدخل من المناجاة ليس إلا.. شاعرنا القديم تحدث عن الحسن بقوله: (حسن الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب).
ناديتها وعلى صدري منازلها
وكم شهيق بصوت العشق ناجاها
يذوب في وجدها شوقي ويأسرني
جمالها كيف يكويني وأرعاها؟
علامات استفهام ناقصة أكملتها نيابة عن شاعرتنا وقد استلب منها المشهد الريفي كل ذاكرتها.. نعم للريف ولجمال الريف جاذبيته وعذريته لحنينها نجوم.. ولحنين غيرها ايضا نجوم..وهموم.. وجهان لعملة حب واحد.. إنها تقول:
يا نجوم الحنين مري بخطوي
لست أدري يا موطني أين أسري
أنت نجوى الفؤاد في صمت ليل
هل مع الفجر سوف يوقظ عصري؟
يا رفيق الحياة كيف حديثي
حين أشدو والخيل حولي يجري؟
فوق أرض الكنانة الآن أتلو
اسمك العذب والنسائم تسري
كان هذا خطابها لفارسها الذي صنع الحب.. واحتضن القلب.. وأقام للحياة وكر سعادة مشتركة تنعم بالحنان والدفء.. كل مشاعر شاعرتنا نورة البواردي تنهل من جدول واحد معينه الأمل والفأل والإشراق.. والأشواق.. أطلالتها على الحياة لا ضبابية فيها.. هتافها لليل نجوى.. وعالم شعرها ثقافة وحديث عيونها بوح وريفها استحضار للعذرية. ونجوم حنينها عنوان ارتقاء ورؤى ليلها علم نهار.. وإطلاقة فرقدها استشراف لعالم تحلم به.. وهذه المرة تشخص بشعرها نحو مقلة الشمس غير وجلة ولا خائفة من الاحتراق.. إنها تكتفي بخطاب مناداة:
مقلة الشمس سافري في سكون
درة الكون أنتِ قبل القرون
إنك الشمس في كتاب الأماني
تبذر الحلم فوق كل العيون
يرسل الشرق كل يوم جديداً
فإنه الضوء راقص بالهتون
ويخلص من مناجاتها المليئة بالانبهار بهذه الكتلة من الضوء المتوهج المليء بالأسرار أن تمنح شعاعها من ضوء اليقين والعلم والعمل لهذا الكون المكون بظلامه وظلمه.. هكذا أرادت:
وامنحينا من الضياء إشعاعا
يملأ الكون بالأمان المبين
هذه المرة ليس هتافا منها لليل وإنما نشوة أسلمتها إلى الحيرة..
نشوة الليل أم شواظ الكآبة
أم حنين الربى لوبل السحابة
أم هو الحب ينشئ بغصون
أم من الحزن هارب بمهابة
استفهامات مجردة من علامات الاستفهام(؟؟).. يبدو أن عقدة ما تقف حاجزا أمام وضعها في أماكنها!
آه ياليل هل عبرت بقلبي
أم مضى القلب هائما في الرحابة
فأنا في الهوى كشفت يقيني
فانزليني أذوب دون إجابة!
ربما لأنك طرحت أسئلة دون علامات استفهام آثرت أن تترك دون إجابة تذكيرا بها حتى لا تنسى!
شاعرتنا وهي تعيش التجربة الشعورية بكل جوانحها.. طرحت تعريفها للشعر..
الشعر بوح وهذا الحب ديدنه
يظلل الغد والتاريخ والآنا
الشعر مملكة والروح موطنه
يزيد أيامنا روحا وسلطانا
الشعر دوحة إلهام منابعه
كطائر في الهوى يبتل ظمآنا..
سر الحياة على الأبيات مدرجها
وفي القوافي معان سوف تلقانا
الشعر كتلة مشاعر يطرحها الشاعر لحظة إلهام يختزن فيها كل أدوات التعبير.. وكل أدبيات التصور ويطرحها تارة هادئة.. وأخرى هازئة..وثالثة مستفزة تحرك الركود.. وترسم للحب والجمال أجمل ما فيه.. الشعر إحساس بالحياة والأحياء من خلال خطاب مموسق له إيقاع ووقع.. ومضمون ومحتوى وليس مجرد أبيات وقافية وتفعيلة هندسية جامدة..
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس جديراً أن يقال له شعر
شاعرتنا اتجهت بقلبها وقالبها إلى أمتها في خطاب شعري لا ينقصه الحماس.. ولا الإحساس بروح الانتماء:
يا أمتي كم وكم زادت مآسينا
نبكيك أم في غد نبكي أمانينا؟
مرت علينا سنون ليس يعرفها
هذا الزمان ولا في الغيب تأتينا
تضع إصبعها على الجرح النازف:
هذي حضارتنا في اليأس واقعة
متى ستنهض أو ترسو مراسينا
تاريخنا جبل في الحزن نصعده
وفي المباهج تمحوه مغانينا
إسلامنا لغة في روحنا سطعت
وفي الضياء به تجري معانينا
يا أمتي استيقظي فالنصر تصنعه
إرادة الله ما عدنا ميامينا
دعوة صادقة منها إلى الوحدة والتوحيد إلى السلام والإسلام.. إلى الأمان والإيمان.
ترقب الدنا من حولها.. ترسم بريشتها لوحة بانورامية لواقعها.. ومواقعها:
هذي الدنا من زهوها تختال
تغتر في أمواجها الأحوال
دنيا تناغمنا بسحر جمالها
وروائها ولنا بها آمال
لكنها في السر تخفي بأسها
كم تلتقي في جوفها الأحوال
عش للجمال وللجلال ولا تخف
إن الحقيقة في الوجود سؤال..
دعوة للجمال... وللجلال.. كن جميلاً ترى الوجود جميلا.. هكذا قال الشاعر:
تتجاوز مع شاعرتنا في رحلتنا معها بعضا من قصائدها ذات المضامين والرؤى المتشابهة وهي كثيرة وممتعة.. ونتوقف سويا أمام مشاهد للصبابة:
الشوق في ألم بكى رحلاته
والقلب ينزف من جوى حسراته
سأظل أسأل ذي الديار عن الهوى
عن غالب يطوي المدى بقناته
سأظل أكتم آهة.. وأبثها
وجه الزمان لكي أرى لحظاته
سؤالان منها واحد لليل:
الليل أسهره أشم عبيره
وأحس في ديجوره شهقاته
وآخر للنهار:
الصبح أسأله إذا انتفض الضحى
يوري الصبابة في ذرى نسماته
وينتهي بها المشهد إلى الشكوى:
قد كان جورا إذ يعذبنا النوى
ويزيد في التلويع من مأساته
وتشخص بعينين والهتين نحو مسرى النجوم:
ليل يطل وآخر يندار
فحياتنا في غمرها أسرار
شمس تجيء وتختفي في وكره
قمر يسافر نوره السيار
ونجوم ليل لا تكف عن السرى
مذ حدثت عن سيرها الأخبار
تتشكل الكلمات حول شفافنا
وعلى الغصون تحلق الأطيار
إنها الحياة نور وظلام.. عدل وظلم.. حياة وموت.. بداية ونهاية.. قبح وجمال.. أكسبت القائلة عن فرحها وترحها؟
هي هذي الحياة حزن وفرح
وتدور الأعمار عاما فعاما
ليس للفكر في الهموم مجال
فامتلئ قلبي الصغير سلاما
واتسع للسرور يوماً وغن
واطرد الحزن عنك والأسقاما
فجمال الحياة أحلى وأنقى
لو رأيت الوجود حلما غراما
أخيرا تأخذنا معها بمشاعرها نحو الشرق الذي تنتمي إليه.. وتخاف عليه:
ليت هذا الطوفان يا شرق غابا
زاد مأساتنا الغداة عذابا
أصبح الموت موطنا حين أمسى
قدر الله في الحياة مجابا
تزخر الأرض هاهنا بالضحايا
وصغير الرياح زاد انتحابا
والأنين الشجي في كل صوب
في حنايا القلوب بات اكتئابا
هذه سنة الخطوب فسلها
كم مصاب من هولها قد أصابا؟!
وأسأل الحزن في الشواطئ ماذا
حل في سرحها فعادت يبابا
وتختتم مقطوعتها بشيء من الأمل:
إيه يا شرقنا الجميل تمهل
سوف تلقي الحياة نهلا عذابا
نعم يا شاعرتنا بالأمل يحيا العمل.. وبإرادة الحياة تأمن الحياة على نفسها من غائلة الغدر.. وفاجعة النهاية.. لله الشكر أيتها الكروان في ترجيعه وهو يحمل بين جناحيه دعاء وعي.. ونداء يقظة.. ترجيع خشية.
الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 فاكس 2053338