كنا صبيةً لم نبلغ الحلم حين أقسم أكبرُنا أنه رأى اسم «مذيع الملك» منشورًا في الصحيفة ضمن الناجحين من المرحلة الابتدائية لذلك العام (ولعله 1968م)، وكذبناه حتى جاء بالصفحة والصحيفة من منزله فإذا الشك يتحول إلى دهشة واستفهامات.
كان صيتُه أكبرَ من كل الشهادات، وكان صوتُه «في الطريق» ممهورًا ب»تحية وسلام»، وكان الظلَ الإعلامي للملك فيصل بصوته الهادئ ونبرته الواثقة ولغته السليمة؛ ما جعلنا نطير بالخبر لأهلينا الذين أضافوا علامات تعجب استحالت إلى إعجاب؛ فكذا العصاميون، وهذا نموذج مشرقٌ لهم.
كان بإمكانه أن يستسلم لفيء النجومية مستلذًا بالأضواء، منشغلا بأثير الفضاء، مستفهمًا – مع الأكثرين باستهزاء:، ومالذي تعنيه شهادة صغيرة لإذاعي كبير ؟، لكنه لم يستكبر ولم يستدبر؛ فوصل الخبر بالمبتدأ، وكافح أربعين عامًا أخرى كي يحصل على «الدكتوراه»، ثم ليرفض وجاهتها؛ فلم يلحق بها اسمه ليؤكد اليوم كما الأمس أنه تعلم من أجل العلم غيرَ عابئ باللقب والمتلقبين.
بعد تخرجنا في الجامعة سبق الصديقان الدكتوران: (عبدالعزيز السبيل وأحمد الطامي) في التعاون مع الإذاعة، وللعلاقة الوثيقة بهما فقد أتيحت لصاحبكم رؤية الإداري الحازم في أكثر من موقف، دون أن يعرفه بنفسه، ولو فعل فلن يكون أكثرَ من شاب صغير لا شأن له بالإعلام حينها، وجمعتهما مناسبتان؛ واحدةٌ في «جدة» والأخرى في «مِنى»، ورغم ابتسامته وتشاغله بالأحاديث العفوية والحماسة «البلوتية» مع جمع المذيعين إلا أنه لم ينشغل، وكان يشير بإيماءة خفية إلى مذيع فترة الفجر أن يغادر كيلا يتأخر على افتتاح الإذاعة، ويتابع بجانب المذياع مراحل النقل المباشر لشعائر المشاعر ويوجه بين آنٍ وآن، ولم تكن خافيةً دقتُه التي لم تحجب رقته، ولهذه حكاية أخرى.
كانت المناسبة افتتاح مبنى «الجزيرة» (1996م) وكان صاحبُكم مذيع الاحتفال فقدمه كما اعتاد، ثم انصرف الناس وأوشك على المغادرة ليجد (كبير الإذاعيين) في أول تعامل مباشر بينهما واقفًا في انتظاره؛ معانقا ومقبلا ومهنئا ومعتزا بدمعة تأثر لم يملك حجبَها حين ذكّره أداؤه بالزمن الجميل كما أسماه، ولم يكن ذلك لتميز في المقدم بل هو الحس الإذاعي والإنساني الذي يملكه هذا الرجل، ويقينه أن الرائد يظل رائدا، وأن التواصل مع الأجيال التالية ضرورة لاستمرار المسيرة.
وعندما أدار وكالة الأنباء كانت الأخبار المهمة تجيء ممهورةً بتوقيعه وأحيانا بشكله وضبطه، وهما كفيلان بمحرري الأخبار أن يجعلوا أخبارهم مستنسخة دون تبديل حرف أو علامة؛ فمن يجرؤ على الكلام في حضرة المتكلم ؟
بدر بن أحمد كريم (ينبع 1935م رسميا و1939م فعليا) إعلامي شامل ابتدأ من الإذاعة حتى صار مديرَها العام، وعمل في الصحافة فصار نائب رئيس التحرير، وتعامل مع مصادر الأخبار فكانت الوكالة في زمنه المصدر الذي لا يحيد ولا يُحاد عنه، وانضم للشورى فعاش التجربة بوعيه وسمته، وهو الخبير الإعلامي في مؤسسته الخاصة، والكاتب والمؤلف والأكاديمي، والوجه المجتمعي والمسهم في الأعمال الخيرية التطوعية.
أبو ياسر نموذج للكفاح والتواضع؛ فما عدا عن أن يكون نجمًا على الأرض يسير الهوينى لتحقيق أهدافه : واحدًا بعد آخر، شاكرا أنعمَ ربِه؛ وهل يُجازى إلا الشكور ؟!
العصامية سيرة وسريرة.
Ibrturkia@gmail.com