الاجتهاد بطبيعته يعلي وتيرة الحراك الثقافي ويوسع في فحواه، لكن إذا تم إجراؤه بآلية غير مؤصلة فقد يكون بالغ الضرر بل قد يمثل الخطوة الأولى على سبيل الانحدار المعرفي. لقد جرت العادة عند البعض أن يقول: فلان مجتهد. حتى ولو كان هذا الموصوف غير مؤهل لذلك، حتى ولو كان يُعمل اجتهاده في قضايا لا يعي مناطها أو يعيه ولكن لا يتوافر على فقه إسقاطها على أطرها المعتبرة؛ ما قد يترتب على اجتهاده توسيع دائرة المفاسد وتضييق دائرة المصالح، وكأن مجرد الاجتهاد من غير تجسيد أهليته باعث كافٍ على أن نمنحه أجراً نحن لا نضمنه إبان قولنا: زيد اجتهد وهو مأجور! إن كلمة (مجتهد) ابتُذِلت فأضحت تُطلق على من لم يملكوا شروطها حتى أفضى الأمر إلى وجود شرائح استخفت بقضية الاجتهاد تحت شعار: «هم رجال ونحن رجال»، وطفقت من جراء ذلك تقدم قراءات للنص لا تفي بشرطه التأويلي. ولا يعي أولئك أن هناك من يحفظ القرآن ويحفظ جميع السنة ويلمّ بكل فروع الفقه فيستحضرها بالفعل لا بالقوة ومع ذلك لا يسوغ أن يوصف بأنه مجتهد، نعم هو عالم بالفقه أو ناقل - بمعنى أدق - لكن لا يُسمّى مجتهداً. إن الاجتهاد ضروب، والمجتهدون فئات؛ فهناك مجتهد مطلق وهو أعلى درجات الاجتهاد، وهو الذي له أصول وفروع كالأئمة الأربعة وسواهم ممن قد يبزهم معرفة كالليث بن سعد في مصر والأوزاعي في الشام وابن المبارك وسفيان الثوري ونحوهم ممن لم يحظوا بشيوع واسع إما لظروف سياسية أو لعدم توافر المريد الذي يمارس دور المروج التسويقي لرؤى الشيخ ولعطائه الفقهي. وهناك مجتهد بالمذهب -وهو أقل مكانة من سابقه، وكلاهما يطلق عليه: الاجتهاد الحقيقي - وهو الذي يقف وأثر إمامه في كثير من المفردات، ولكنه أيضاً يخرج عن خطه في كثير من المسائل فيرجح ويضعف، وأغلب فقهاء الأمة المعتبرين هم من هذه الفئة. وهناك أيضاً مجتهد في المذهب أي يدور في فلك المذهب لا يتجاوز حدوده بحال، وهذا أقل منزلة مما قبله؛ لأن هذا محصورٌ دوره الوظيفي في قياس الحوادث في السياق المعاصر على حوادث مشابهة شهدها زمن إمامه، وأيضاً ثمة دور آخر يتمثل في اشتغاله على ترجيح قول إمامه. وأقل من هذا رتبة -والجميع مثابون - ما يسمى: مجتهد في الفتوى، وهذا لا دور له سوى ترجمة كلام السلف بأسلوب عصري يلائم طبيعة ملامح الذهنية المعاصرة، فديدنه النقل: منع فلان، وأجاز فلان، وقال فلان. وهذا يمثله شريحة من المتعمقين في التخصص الشرعي في الراهن الحالي.
إن فاعلية الاجتهاد كقيمة فقهية لا تتجسد إلا بشروطٍ آكدها: التشبع بعلم الوحي بنوعيه: الظاهر والباطن، والوعي المفصل بمفردات الواقعة والتوافر على عمق ملَكة الاستنباط.
عدم توافر تلك الأشياء لا يرشح المرء للاجتهاد بل يحظر عليه ذلك شرعاً، وثمة نسبة من الإثم يبوء بحملها إن أقدم على ذلك؛ وذلك لأنه يصدر على وجه لا مِرْية في عدم اعتباره. أيضاً ذلك الذي يملك أدوات الاجتهاد لا يُسلّم له بصوابية الاجتهاد في كل حالة؛ إذ إنه لا يعدو الدائرة الظنية المفتوحة على الاحتمال المتعدد، وكما يقرر الأصوليون كأبي بكر الباقلاني فإن معظم الأحكام الفقهية ظنية، فالفقه من باب الظنون، وقد كان الإمام مالك يذيل فتواه بقوله «إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين».
ثمة مَنْ يمتلك المقومات المعرفية والملكات الإدراكية ولكنه يفتقر إلى فقه الواقعة، وليس لديه كبير بصيرة بملابساتها، وعلى العكس ثمة من يعي مكونات الواقعة ويدرك شبكة علاقاتها - كما هو حال جملة من المفكرين - ولكنه لم يتلق من التغذية المعرفية ما يتيح له إسقاط الحكم الشرعي الملائم في هذا المساق.
إن سلامة الطوية وحسن المرام ليسا مؤهلاً للشروع في ممارسة الاجتهاد. والخطأ في الاجتهاد له عوامل، من أبرزها:
أولاً: طغيان الهوى وعدم التجرد من الشؤون الخاصة. ففي الغالب يتعسر على المرء معاينة المسارب التي تنفذ منها الأهواء إلى لُبه؛ ولذا فهو يعتقد أنه متحرر من أسر الهوى مع أنه خاضع لقسره الإكراهي من حيث لا يشعر، الهوى يموه على العقل فتختل الموازين وتنعدم الرؤية، وحينئذ يتصور الأشياء على نحو مغاير لماهيتها فإذا كانت عواطفه تميل إلى شيء ما لبّست على عقله وأخفت عنه عناصر الخلل التي تعتور بنيته.
ثانياً: عدم تقصي المسألة وعدم الاستقراء المعمق لحيثياتها ومن ثم الاستناد إلى عدم العلم، والمعروف - كما تقرر القاعدة الأصولية - أن عدم العلم ليس علماً بالعدم. إن الكسل العقلي يثبط صاحبه فيقصر عن درك تلك المسألة ولا ينفق وسعه في معانقة أبعادها الشرعية أو الواقعية. القصور البحثي لا يفضي إلا إلى تشكل صور مغلوطة عن الواقعة المستهدفة؛ ما يفضي بالتالي إلى إبطال فعالية الاجتهاد. حين يكون الانطباع الذهني عن تلك الواقعة خُداجاً فإن الأحكام النهائية ستكون أقرب إلى الاعوجاج؛ لأن مد العقل بالمدخلات التي ينتابها الخطل لا يمكن أن يؤسس لمخرجات اجتهادية صائبة ولا لبناء مناخ معرفي نقي يمضي بالمشهد الاجتهادي قُدُما نحو الأمام. عندما تكون الصورة الذهنية عن الواقعة تنتابها مواطن القصور فإن الفرد سيعيش حينئذ نائياً عن إطار هذه الواقعة، وستكون الحركة الاجتهادية ضرباً من الأوبة عن سبل الاجتهاد المفعم بالصوابية.
بريدة