أ- موت على الماء
بقراءة مجموعته القصصية الأولى «موت على الماء» سنلحظ أن أطياف القرية تتسلل بحنان وعفوية بالغة إلى القصص المعبرة عن ذلك الكيان المهيأ للدفن قبل أن تتحول الكتابة عنه إلى مشروع عقلاني وفني متعدد الجوانب تم إنضاجه بهدوء فيما بعد. وفي نفس المجموعة يمكن الوقوف على مشاعر الغربة والتمرد والإحباط والإحساس بمفارقة الأضداد - للمرة الأخيرة في كتابات عبدالعزيز- لارتباط كتابتها بمرحلة فوران الصبا والإحساس المضخم بالألم والأنا والحاجة إلى المرأة.
وبدون عناء يمكننا تلمس سيمياء ذلك الاغتراب في لوحة الغلاف التي قام بتخطيطها الأولي ثم نفذها الفنان سمير الدهام، وفي عنوان المجموعة، الذي أبرز مفارقة «الموت على الماء»، وفي الإهداء الذي يقول: «إلى الغرباء الذين تنتحر خطواتهم على سواحل الصمت»، وفي عناوين القصص مثل «الدمعة... والحظ الهارب»، ثم في بعض تفاصيل البوح القصصي مثل قوله:
((أعرفك منكسر النفس... مهزوم الوجدان... تحمل سجائر أو قداحة تحرق العالم.... أعرفك هادئاً... وسيماً.. تتعثر في الممرات المتعرجة الطويلة... تبحث عن... وجهك بلون الزيت.. وأنت الماء تنقب عن ماء القلب.
يا وهج الماء..
يا لون الماء..
يا براءة الماء!))
كانت مجموعة «موت على الماء» تجربة كتابية متميزة في سلسلة أعماله، ففيها يتبدى حسه العالي بتوظيف اللون والصوت كمكونين من مكونات لغته الخاصة التي اشتغل على استثمارها في صياغة العديد من تقنيات كتابة النص بدءاً بالكلمة المنحوتة بطريقته الخاصة، ثم التكرار المتوازن للمفردات، واللعب الفني الحاذق بالتقديم والتأخير لتغييب أجزاء من المعنى ( قصة «شوارب القطة»، وقصة «القطة وعينا صالح» حيث الإشارة من طرف خفي إلى مرموز القطة/ الأنثى)، ثم التعامل مع الحكاية الشعبية التي تختزن بعض عناصر الخرافة وجعلها جزءاً عضوياً من الحكي وتغييب «ميثيلوجيته» في واقعية النص، مثل استخدامه لشجره اللوز والتشاؤم المرتبط بتسلقها، ولشجرة «الحماط» في قصة «مليحة.. الغنم وموت الحماطة» (حيث جرى تركيبها بالتقاطع مع أسطورة الحماطة وعلاقتها باللذة المحرمة على المرأة قبل زواجها) وكذلك لما يرتبط بالحيوان من تصورات أسطورية مثل الثور والحمار والثعلب.
وسنتعرف في هذه المجموعة المبكرة تحديداً على اتكائه على ثروته التشكيلية وحساسيته المتميزة لدلالة الصوت في الكثير من نصوصها، حيث يبدع في استنطاق اللون الباطني للأشياء بطريقته الخاصة كما في قصة «السماء والحناجر ملتهبة» التي نجتزئ منها الفقرة التالية:
((اتشحت أوراق اللون بخضرة مذهبة.. رفرفت كأجنحة الطير، وفي خفة وبطء كانت ترسل حفيفاً مثرثراً وسط هذا الصمت، وكان يسيل على الصخور.. شجر الطلح.. الطريق المنساب الخالي.. صمت دقيق وشفاف، الهواء يهب بارداً وخفيفاً.. رائحة النسيم تظلل كل شيء.
الأشياء نائمة.. هادئة في حين بدا النور يتسلل في كسل وخجل.
العم «عاطي» يطل بوجه متغضرف، وأنف كالضفدع المسلوخ.. من النافذة الخشبية كأنه صورة شيطان في إطار عتيق.
كان يمضغ لسانه..
كان يلوكه في امتعاض وقسوة..
وكان قلبه يمتلئ بالسخام، العم عاطي))
ب- ما بعد موت على الماء:
قلة من الكتاب هم الذين يراجعون بواكير أعمالهم بمثل الصرامة والشجاعة التي تأمل فيها عبدالعزيز تجربته الكتابية قبل وبعد صدور مجموعة «موت على الماء» حيث توقف عن كتابة النص السردي بعدها لمدة تزيد عن خمسة أعوام. وقد تم له خلال تلك الفترة مغادرة قلق التكوين الفكري ومرارة الإحساس بالغربة، وتيسرت له فيها إقامة صداقات ثقافية وإنسانية مترعة بالغنى والآمال العريضة، وأنجز أثناءها قراءة شبه منهجية لبعض الإبداعات والمؤلفات الاجتماعية والفكرية بما مكنه من سلخ مرحلة الاغتراب من حياته والدخول في أحلام إقامة «المدينة الفاضلة».
ورغم المصاعب القاسية المالية والصحية التي عاناها خلال تجربة الاغتراب –الجسدي وليس الفكري عن الوطن عام 82م– في القاهرة بصحبة زوجته لمدة تزيد عن العام، إلا أن المعنى الجوهري لتجربة الاغتراب عن الوطن من أجل الوطن قد أمدته بقوة وصلابة لازمته طوال مراحل حياته.
وخلال تلك السنوات الخمس التي قضاها في التأمل والقراءة والمثاقفة من الدمام إلى القاهرة ومن القاهرة إلى الدمام استطاع ان يستخلص فهماً واضحاً وإجابات ناجزة على ما كان يخامره من تساؤلات حول معنى الكتابة: لمن يكتب ولماذا يكتب. وهذه المرة لم يتزود بالإجابات على أسئلته من تراث «كامو» ولا «كولن ولسن» وإنما وجدها في الشارع، في حياة الناس، وفي أخلاقية الرسالة ومسئولية الكتابة ودورها الفني والإنساني في تطور المجتمع وتقدمه.
حقاً كان يحلم، لكنه لم يكن أول الحالمين ولا آخرهم، بل كان واحدا ًمن الذين يمت لكون فضيلة الصدق الجارح فهماً وممارسةً، ولذا انتقد كتاباته السابقة رغم جماليات تقنياتها، وذهب إلى ترسيخ أهمية وضوح الرسالة بين المرسل والمستقبل، والى احتفاء الإبداع بالبسيط من السلوك والعفوي من الممارسات في حياة الناس وتكريس حضور المرأة الإنساني البهي بشكل كبير. (يمكن الرجوع إلى كتابه «مكاشفات السيف والوردة»).
الدمام