على الرغم من (فتنة الجَمَل) فقد ظلّ الصحابةُ يُجلّون أمّ المؤمنين السيّدة عائشة - رضي الله عنها - ويفقهون قَدرها، ومكانتها من النبي - عليه الصلاة والسلام - بمَن فيهم عليٌّ - رضي الله عنه -. وتلك هي الصورة المعقولة واللائقة بمن ربّاهم رسول الله، وتنزّل فيهم كتاب الله، وهم أهل بيت النبوّة - وإنْ لم يرتفعوا، بطبيعة الحال، عن مستوى البشريّة في المراوحة بين خطأٍ وصواب - لا ما دبّجه أوباش الخلق في القرون المنحدرة من ترّهات، مفرغين ما في رؤوسهم من جهالات وجاهليّات، وما في صدوهم من حنق، وما تحمله نفوسهم من قماءة؛ ليسوّدوا بسواد تلك الأمراض صفحاتٍ من التاريخ، ويلتاكوا الأُمّة إلى يوم القيامة بعصبيّات لا تنتهي، وطيش طائفيّات أكل الدهر عليها وشرب، كانت وما زالت فيهم أحبولة الأعداء من اليهود والعَجَم، معيقين كلّ بارقة أملٍ نحو تخطّي الماضي إلى الآتي. ومَن كان قُوْتُه التاريخ السياسيّ والأيديولوجيّ ظَلَّ يقيء ويستردّ قَيئه، لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى! ومصداق تلك الصورة - التي لا نزعم طبعًا أنها كانت ورديّة - ما جاء مثلاً في سياق تلك الفتنة، وقبل المعركة: من أنه «قام عليٌّ فخطب الناسَ، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري، فسأله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له عليٌّ: عليَّ الإصلاح وإطفاء النار، لعلّ الله يجمع شمل هذه الأُمَّة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبوا؟ قال: تركناهم ما تركونا. وقال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم في هذا مِثْل الذي عليهم؟ قال: نعم! وقام إليه أبو سلام الدالاني، فقال: أترى لهؤلاء القوم حُجّةً فيما طَلَبوا من هذا الدَّم، إنْ كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم! قال: فترى لك حُجّةً بتأخيرك ذلك؟ قال: نعم، إن الشيء إذا كان لا يُدرَك، فالحُكم فيه أحوطه وأعمّه نفعًا. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتُلينا غدًا؟ قال: إني لأرجو ألاّ يُقتل منّا ومنهم أحدٌ نقيٌّ قلبه لله إلاّ أدخله الله الجنّة».. وقال في خطبته: «أيها الناس املكوا أنفسكم، وكفّوا عن هؤلاء القوم أيديَكم وألسنتكم، وإيّاكم أنْ تسبقونا، فإن المخصوم غدًا من خصم اليوم». وجاء الأحنف بن قيس إلى عليّ - رضي الله عنه - وكان قد بايعه بالمدينة بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه - فقال: «إنّ قومنا بالبصرة يزعمون أنك إنْ ظفرتَ عليهم غدًا قَتَلْتَ رجالهم وسَبَيْتَ نساءهم!» قال: «ما مثلي يُخاف هذا منه! وهل يحلّ هذا إلاّ لمَن تولَّى وكَفَر؟! وهم قوم مسلمون». «ولمّا تراءى الجمعان في موقعة الجَمَل خرج الزبيرُ على فَرَس وعليه سلاح، فقيل لعليّ: «هذا الزبير!» فقال: «أما إنه أحرَى الرجلين إنْ ذُكّر بالله أن يَذْكُر». وخرج طلحة، فخرج إليهما عليٌّ، فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال: «لعَمْري لقد أعددتما سلاحًا وخيلاً ورجالاً، إنْ كنتما أعددتما عذرًا عند الله فاتّقيا الله، ولا تكونا {كالتي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ أنكاثاً}، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرّمان دمي وأحرم دماءكما؟! فهل من حَدَثٍ أحلّ دمي؟!» فقال طلحةُ: «اللّبثُ على دم عثمان». فقال عليّ - رضي الله عنه -: «{يومئذ يوفيهم اللهُ دينهم الحق}، يا طلحة، تَطلب بدم عثمان؟! فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أتيتَ بعرس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تقاتل بها، وخبّأت عرسك في البيت؟! أما بايعتني؟!» قال: «بايعتُكَ والسيف على عنقي!» ثم قال للزبير: «ما أخرجك؟» قال: «أنت، ولا أراكَ لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منّا». فذكّره عليٌّ - رضي الله عنه - بأشياء، ثم قال: «أتذكر يوم مررتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني غنم، فنظر إليّ، فضَحِكَ وضَحِكْت إليه، فقلتَ: لا يدعُ ابنُ أبي طالب زَهْوَه! فقال لك رسول الله عليه الصلاة والسلام: «إنك لتقاتله وأنت ظالم له»؟!»، فقال: «اللهم نعم، ولقد كنتُ أُنسيتها، ولو ذكرتُ ما سِرْتُ مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبدًا!».. وكان مِن رأيهم جميعًا في تلك الفتنة ألاّ يقتتلوا حتى يُبدؤوا، يطلبون بذلك الحُجّة، وألاّ يقتلوا مُدْبِرًا، ولا يُجهزوا على جريح، ولا يستحلّوا سلبًا». وكان الفريقان لا يريان إلاّ أن الصلح بينهما وشيك، لكن (السبئيّة) كانت ما تنفكّ تُغري بين الفريقين وتوغر صدورهما. وعَقِب انقضاء المعركة راح عليٌّ إلى عائشة في دار عبدالله بن خلف الخزاعي «ودخل على عائشة فسلّم عليها وقعد عندها.. ولمّا خرج من عند عائشة، قال له رجل من الأزد: «والله لا تغلبنا هذه المرأة!» فغضب، وقال: «مَهْ، لا تهتكنّ سترًا، ولا تدخلنّ دارًا، ولا تهيجنّ امرأةً بأذى، وإن شتمنَ أعراضكم، وسفّهنَ أمراءكم وصلحاءكم! فإن النساء ضعيفات، ولقد كنّا نؤمر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات، فكيف إذا كنّ مسلمات؟!» ومضى، فلحقه رجل فقال: «يا أمير المؤمنين، قام رجلان على الباب فتناولا مَن هو أمضّ شتيمة لكَ من صفيّة»، [يعني بصفيّة زوجة عبدالله بن خلف، وكانت قد جبهتْ عليًّا بكلام حين دخوله دارها؛ لمقتل ولديها]. فقال: «ويحكَ لعلّها عائشة!» قال: «نعم».. فبعث القعقاعَ بن عمرو إلى الباب، فأقبل علَى مَن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما: عجلان وسعد ابنا عبد الله، فضربهما مئة سوط.. وسألتْ عائشةُ - رضي الله عنها - عمّن قُتل من الناس معها وعليها، فكلّما نُعِيَ واحدٌ من الجميع قالت: «رحمه الله!» فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: «كذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلانٌ في الجنّة وفلانٌ في الجنّة». ثم جهّز عليٌّ - رضي الله عنه - عائشة بكلّ ما ينبغي لها من مركبٍ وزادٍ ومتاعٍ وغير ذلك، وبَعَثَ معها كلّ من نجا ممّن خرج معها، إلاّ من أحبّ المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسَيَّر معها أخاها محمّد بن أبي بكر - رضي الله عنهم-. فلمّا كان اليوم الذي ارتحلتْ فيه أتاها عليٌّ، فوقف لها، وحضر الناسُ، فخرجتْ، وودّعوها وودّعتهم، وقالت: «يا بَنِيَّ، لا يَعْتَبْ بعضُنا على بعضٍ، إنه واللهِ ما كان بيني وبين عليٍّ في القديمِ إلاّ ما يكون بينَ المرأةِ وأحمائها، وإنه - على مَعْتَبَتِي - لمن الأخيار». فقال عليٌّ - رضي الله عنه -: «صَدَقَتْ واللهِ ما كان بيني وبينها إلاّ ذاك، وإنها لزوجةُ نبيِّكم في الدنيا والآخرة». وكان خروجها من البصرة يوم السبت غرّة شهر رجب سنة ست وثلاثين، وشَيَّعَها عليٌّ أميالاً، وسَرَّحَ بَنِيْهِ معها يومًا. وتَوَجَّهَتْ إلى مكّة، فأقامت إلى الحجّ، فحجّتْ، ثم رجعتْ إلى المدينة.(1)
ولقد نال طلحةَ - رضي الله عنه - أيضًا ما نال عائشة من إفك الأفّاكين، وما ذلك إلاّ لموقفه في تلك الأحداث. طلحة المعروف بـ»طلحة الخير» و»طلحة الفيّاض». قيل سُمِّيَ بالفيّاض لأنه اشترى مالاً بموضع يُقال له (بيسان)، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنت إلاّ فيّاض»، فسُمِّي بذلك من يومئذ. وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنّة، وأحد الستّة أصحاب الشورى الذين مات رسول الله وهو عنهم راضٍ. شَهِدَ أُحُدًا وما بعدها، وأبلَى يوم أُحُدٍ بلاءً حسنًا، ووقَى رسولَ الله بنفسه، اتّقَى عنه النَّبْلَ بيده حتى شُلّت إصبعه وضُرب في رأسه، وحَمَلَ رسولَ الله على ظهره حتى صعد الصخرة، فقال عليه السلام لأبي بكر - رضي الله عنه -: «اليوم أَوْجَبَ طلحةُ يا أبا بكر»، أي استوجب الجنّة. ويُروى أن رسول الله نظر إليه، فقال: «مَن أحبَّ أن ينظر إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة».(2) ذاك تاريخنا، كتاريخ سائر الأُمم، فيه الخلاف والتنازع، والضعف البشريّ والقوّة، والصواب والخطأ، غير أننا ابتُلينا - دون العالم - بمَن جعلوا التاريخ دينًا، وجعلوا البشر أصنامًا، فظللنا بذلك ضحايا التاريخ، لا نغادره إلاّ إليه. بل إننا كما نرى كلّما تقدّم بنا الزمان، وابتعد بنا العهد عن الأحداث، ازداد ركامُ السنين على ظهورنا، بما قيل وما رُوي وما زُعِم، وكلّ ذلك - بحسب ثقافتنا المتوارثة - حريّ بالاحتفاء، وبالأخذ والردٍّ، والنبش والاستحياء، والبعث والاصطراع؛ كي نُسهم بدورنا كآبائنا في توليد مزيدٍ من الركام على ظهور أجيالنا القادمة! تتجاوز الأُمم الحُرّة تواريخها، وتتناسى صراعاتها، فيغدو أعداءُ الأمس حلفاءَ اليوم، ونحن دائرون كـ(جَمَل المعصارة)(3) في دوّامتنا العتيقة تلك؛ من حيث كان قد عُقِد القِرانُ بين السياسيّ والدينيّ عقدًا أبديًّا منذ وقتٍ مبكّر. وتلك أفظع حالةٍ ما انفكّت ترتهن الأُمّة الإسلاميّة وتمزّقها شرّ ممزق، لتصنع منها أَمامَ العالمين - بعد أن كانت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} - شرَّ أمةٍ أخرجت للناس! أشهر منتجاتها: الطائفيّة والإرهاب!
(1) انظر: النويري (-733هـ)، (2004)، نهاية الأرب في فنون الأدب، تح. عماد علي حمزة (بيروت: دار الكُتب العلميّة)، 20: 37- 38، 49- 50.
(2) انظر: م.ن، 20: 51- 52.
(3) مَثَل جنوبيّ. وجَمل امّعصارة: جَمَل يُشدّ إلى آلة خشبية تعصر السمسم أو الجلجلان، ويدور على حُفيرة العَصْر، وقد عُصبتْ عيناه لكي يظن نفسه يمشي مسافات، لا يدور في مكانه، وكيلا يصيبه الدُّوار. ويَضربون به المَثَل لمن يدور في حلقةٍ مفرغة، فيقولون: «فلان مثل جَمَل امّعصارة»، أي يدور في مكانه، بلا تقدّم. ومَثَلُهم ذاك يشبه قول ابن عطاء الله السكندري في حكَمه: «لا تكن كحمار الرحَى، تدور مِن كونٍ إلى كون، ولكن انفلتْ وتفكّر بخالق الأكوان».
aalfaify@yahoo.comhttp://khayma.com/faify
الرياض