كانت ثلاثُ «بُوسطات» تعملُ بين «الرّقة» و»تل أبيض».. واحدةٌ للطريق الشرقيّ المارّ بوادي البلخ وقرى بدو «عْنِزه».. والثانيةُ تأخذُ الطريق الغربي مروراً «بعين عيس» ثم قرى الأكراد.. والثالثةُ تسلكُ الطريق الوسطى مارةً بقريتنا «الجرن الأسود» التي أخذتْ اسمها من جُرنٍ أثري لدقّ الحبّ.. بالمناسبة قريتنا فيها من الآثار ما يُوحي أنّها كانت على الدوام مأهولة.. في قريتنا سواقٍ أثريّة من فخار، ودلائل تشير إلى معاصر زيتون قديمة.. وفيها طريقٌ مرصوف بالحجر يسير صُعداً نحو الشمال.. مرةً وجدنا جرّة صغيرة من فخارٍ فيها 86 قطعة فضيةً، على وجهها الأوّل «لا إله إلا الله».. وعلى الوجه الثاني «الوليد بن عبد الملك».
في أوائل الستينيّات كان سائق «بوسطتنا» أرمنيّاً اسمه «نرسيس».. وكان رجلاً مُقتصداً، يبيتُ ليلتَهُ حيثما ينتهي الخطّ عملياً.. أي في القرية التي ينزلُ فيها آخر راكب، وكثيراً ما كانت قريتنا تحظى به ضيفاً في المضافة.
كيف لي أنْ أهدأ؟
اليوم سيأتي عمّي محمود من المدينة ومعه أغراضٌ وأدوات للرياضة وعدتْ بها مديريةُ التربية.. هكذا اعتاد مديرُ مدرستنا.. كتابٌ من ورقةٍ واحدة في ظرف يحملُه أيُّ مسافر إلى المدينة ويسلّمه للمديرية.
ومن يدري ربما أتى عمّي أيضاً بهدية لي!
فكيف لي أنْ أهدأ؟
خارجاً داخلاً، والدنيا زمهريرٌ، والثلجُ يغطّي الأرض. ومن السماء يَهْمي بسكونٍ عجيبٍ رذاذٌ مُتجمّدٌ لا هو مطرٌ ولا هو ثلجٌ ولا هو بَردٌ.. وكلما دخلتُ أو خرجت أمطرتْني أمي بكلماتها المحذّرة من البرد و»بالحكمة» الدائمة الُمنسجمة مع برودة أعصابها ونطقها الوئيد «الدنيا لن تطير... كِنْ».
من أين لي أن أَكِنّ؟ أتخيّل «البُوسطة» ترتقي الهضبةَ الشرقيّة من جانبِها الذي لا أراه.. أتخيّلها تقتربُ من القمة.. أتخيّلُ الحمولةَ المكدّسة على السقف تظهرُ أولاً، ثم تنبقُ البُوسطة وتبدأُ بالنزول ببطء نحو القرية. أركض بين بيتنا والمضافة.. عشرات بلْ ربما مئات المرّات ركضاً ووجهي نحو المضافة في الذهاب، وركضاً متعثراً إلى الخلف ووجهي نحو المضافة أيضاً في العودة، كي لا يغيب الطريقُ عنْ عيني لحظةً واحدة.. من هذا المسار أستطيعُ أن أكشفَ كلّ الهضبة الشرقية، ولن يفوتني بُزوغ سقف البوسطة ما إنْ يظهر.. سأراها في لحظة ظهورها، كنتُ أهمسُ في داخلي طوال الوقت.. لن أنْدار إلى أي شيء.
فجأة وجدتُني اندهشُ.. فالبُوسطة كانت قد ظهرت.. وهي الآن تنحدر نحو القرية.. وقد قطعتْ مسافةً في الانحدار.. يا لي من ولد ساهٍ! مثلما يقول أبي مُعنّفاً.. العمى يضربُني، همستُ في داخلي.
وفجأةً أيضاً شرعت البُوسطةُ تترنّح يميناً وشمالاً.. والدربُ، الذي يبدو من هنا كخطّ كامل البياض على كتفيه بقعٌ معرّاةٌ، يهرب من تحتها ويعود.. لم أدركْ بدايةً ماذا يحدث.. لكنْ مع استعراض البُوسطة على الطريق مرةً بجانبها ومرّة بمؤخّرتها ومرّة بمقدمتها، أدركتُ أنّ الأمر خطيرٌ.
من هنا كانت البُوسطة تبدو لي مثل خنفسة على جدار باغتتْها حركةٌ.. تخبّطٌ وانزياحٌ وانزلاق، ثم ركونٌ على عجلتين ثم اعتدال ثم مرة أخرى مَيلانٌ على عجلتين.. وفي النهاية مالت على جنبها الأيسر وظلّت تنزلقُ مسافةً والعجلات اليمنى مُشْرَعة في الهواء، ثمّ... وببطء اتّكأتْ على صفحتها اليسرى، وهمدتْ. ما كان في البُوسطة إلا «نرسيس» وثلاثة ركّاب من قرية واحدة أبوا إلا أن يكملوا سيرهم على الأقدام.. لم يُصبْ أحدٌ عدا عن جرحٍ صغير مثل ثقْب في حاجب «نرسيس».. لم يأتِ عمّي «محمود» يومها ولا بعد يومين ولا بعد ثلاثة.. أتى بعد شهرين مكسورَ الخاطر بلا هدية لي وبلا أدوات وأغراض الرياضة.. ومن يومها راحتْ قريتُنا تتعرّف بصمتٍ على الحكومة الجديدة التي صنّفتنا تحت اسمٍ غريب على الأقل بالنسبة لي كصبيّ.
«إقْطاعِيُّو نَفْسٍ»
هكذا كانوا يلفظونها نحوّية، معربة، مُفصّحة.. لم يكن نادراً أن يلفظُها حزبيٌّ أمّيٌ بتفاصح كاملٍ، ليستخدمها كأداة تسلّط علينا.
شهراً بعد شهر.. وسنة بعد سنة ظلّ اسمنا «إقطاعِيّو نًفْس» يُلاحقُنا.. لم نكن نملك أرضاً تستأهلُ إطلاقَ صفةَ «إقطاعيين».. لذا اخترعوا هذا الاسم.. إنه اسمنا الخاصّ.. في الاسم اتهامٌ، وهو اتهام جديّ آنذاك. كم من مشاجرة! وكم من وشايةٍ لدى الأمن وجدتْ آذاناً صاغية! فالترجمةُ العمليّة للتسمية هي «أعداء الدولة».
يشبهُ الأمر نكتةً، مع إنّه وقتها كان في غاية الخطورة والجديّة.. والأدهى أن «نرسيس» استعذب التسمية وراح يردّد ساخراً على الدوام بمناسبة وغير مناسبة وبلكنته الأرمنيّة «إقطاعيو نفس».. والأغرب أنه لم يلفظها صحيحةً ولا مرّة واحدة.
أوسلو