ربما هي التركيبةُ المجتمعيةُ الناشئة التي خلقت النظرةَ المتوجسة من العسكري زمنًا؛ فقد رُئي عبوسًا متجهمًا آمرًا ناهيًا، يرفعُ الصوت، ويجيد العنف، ولا يطيقُ الحوار، كما لا تعنيه قضايا الثقافة وهموم الناس، ويكفي أنه الوصيُ عليهم، المطالَب بمنعهم وردعهم، ثم بدأت الصورة في التبدل وإن لم تختلف ملامح الحدة والشدة.
تلك واحدةٌ، وثمة أخرى؛ فقلةٌ منهم من يجيدون التعامل مع الكلمة الشاعرة والمعلومة التراثية والبحث المنهجي، حتى بات كثير من العسكريين يَسِمُون أنفسهم بالأمية «الأدبية» وإن بدوا علماءَ في حقولهم التخصصية، غير أن «أبا أيمن» قلب المعادلتين معًا؛ فقد جاء من بيت علم، وظل حفيًا بالعلم، قريبًا من دوائر الناس، مهمومًا بشجونهم.
كان في منصبه الكبير مع «العسكريين»، وله اسمُه في دنيا الوراقين، حريصًا على خدمة المحتاجين، ثم خلع البدلة وودع «التاج والمقص» واعتمر الثوب فزهت الصورةُ المضيئة أكثر، وصار - لمتابعيه - الشاعرَ والناثرَ والمحاضرَ والحاضر؛ مستعيدًا علم والده «الفَرَضي»، ودأب عمه المحقق والناشر، ومضيفًا إلى «الكمال» اكتمالا.
في طبعه هدوءٌ وتواضع ومجاملة لا تحجب حزمه وحسمه وربما غضبه حين لا يروق له أمر يراه حقًا وصدقا، وفي إحدى الرحلات شاهده صاحبكم يتحامل على ذائقته ليُفهم من ليس شاعرًا أن نصَه جميل ولكنه بحاجةٍ إلى التعديل الأقرب إلى التغيير، وجالس «الأبيات» الركيكة مرارًا درءًا لمكاشفة ربِها أن «الشعر صعبٌ وطويل سلمه إذا...»؛ فالمناسبة رحلةٌ حميمة، ولم يرد أن يسيء إلى من يظن الشعر أسطرًا وأشطرا.
حين قرأ «سؤال المدى» الموجه إلى «الثبيتي في رحيل القصيبي» وأوله:
يممتُ وجهك في فرضي وترويحي
وقلت يارب قد طالت تباريحي
وآخرُه:
بك الرجا نلتجي من وسوسات عمٍ
لا يعرف الفرق بين الشوك والشيحِ
كتب لصاحبكم رسالة تقديرٍ ذيلها بتوقيع: «من عمٍ لا يعرف الفرق بين الشوك والشيح»، فأجابه:
لمثل إشراقكَ الميمونِ تلويحي
أراك لون الصباحات التي عمرت
لا تستطيع القوافي رد فضلكمُ
فلا تلمني إذا ضاعت مفاتيحي
يومًا بأجملِ ما في الوردِ والشيحِ
فاعذرْ «أبا أيمنٍ» تقصير تبريحي
في العام الجديد هنأ سعادة اللواء الشوروي أصحابَه برسالة شعرية باذخة:
حنانيك فاغفر لي مجاراتكم جهرا
فأنت من القوم الذين بيانُهم
إذا حدثوا أصغى لهم كل مسمعٍ
على أنني بادرتُ أزجي تحيةً
تهنيك بالعام الجديد فإنه
وفي كل عام تحتويك سعادةٌ
فإن قصرت باعي فتلك مشيئةٌ
وكيف وقد طوعتمُ الشعر والنثرا
حوى من بليغ القول أجمله درا
ولم ينطقوا هجرا ولم ينبسوا كفرا
مجللة وردًا مضمخةً عطرا
أتى يحمل الخيرات والسعد والبشرى
وترفل في عزٍ مع الحل والمسرى
ويُحدث ربي بعد إعساري اليُسرا
اللواء المتقاعد عبد القادر بن عبد الحي بن محمد بن عبد الحق بن كمال الثقفي (1353هـ - الطائف) تخرج في القاهرة ولندن وتولى إدارة جوازات مطار جدة قبل خمسين عاما، كما عمل مديرًا عاما مكلفا للجوازات في المملكة، ومديرا عاما للمرور، ومديرا لشرطة منطقة عسير ولمنطقة مكة المكرمة، ثم عضوًا في مجلس الشورى من أول دورة له حتى تقاعد، وشارك في عضوية لجان ومجالس، وحاز أوسمة رفيعة في وطنه ومن لبنان والصين وسواها.
بقي أن نسأل أبا أيمن، وهو المتمكن من لغته وأدواته، ألا تختصر لنا مسيرة العمر في سيرة رجل جمع الماء والنار يومًا، وتنقل بين بين رفوف المكتبات ودفوف المارشات فحاز السبق في كليهما، ولم يُؤتَ ذلك إلا لذوي العزم والحزم والنهى؟
التربة تربية.
Ibrturkia@gmail.com