نبدأ من العنوان،في هذه الرواية نجد العنوان شديد الوضوح لدرجة توصلك للغموض يذكرني في غموضه بعبارة علماء «سيوسولوجيا الخطاب» إظهار ما هو ظاهر وهو بحاجة للإظهار ليس لكونه مختفيًا بل لكونه ظاهرا بإفراط على سطح الأشياء «فنجد أنك تقرأه مباشرة جريمة في دبي،بينما هي جريمة دبي، وفي هذه مخاتلة كبيرة كما سيتضح لاحقًا عند الانتهاء من قراءة كامل العمل.
وإذا انتقلنا إلى الإهداء نجد أن الشريف يمتاز أيضًا بإهداءاته المختلفة في كل كتبه إذ إنه ينحو للمراوغة أحيانًا والوضوح الذي يقصد به الغموض في أحيان أخرى،وخير مثال إهداؤه في رواية مقتل دمية،والإهداء اليوم في جريمة دبي. فهو يهدي لامرأة هناك وهنا،لكنه في رواية الدمية يصرح بهذه المرأة التي هي زوجته ويذكر اسمها الثلاثي الصريح ليخاتل كل من أخفى اسم زوجته خوفًا من العار عندما يعرف اسمها قرنائه،بينما نجده هنا يتركه مبهمًا فيتحدث عن امرأة «هي كل النساء» ليهديها العمل باسم كل الرجال وهو ما يظهر في قوله «وكنتِ تضنين علينا بأسرارها...» وكأنه يهديها بعض حكاياتهن.
قد تبدو العلاقة بين عنوان الفصل الأول «متعة قاتلة» وعنوان الفصل الأخير «عتمة مضيئة» مبهمة إلى حد ما،لكنني وضعتها في سياق الدائرة وكأنه يريد إخبارنا بأن الحياة مع المرأة لا تعدو أن تكون متعة قاتلة نعيشها في عتمة مضيئة أو لنقل أنني فهمتها على هذا النحو.
وإذا ما اتخذنا من هذه الرواية بالإضافة لما سبق من أعمال الكاتب وسيلة للتعرف على أسلوبه ومنهجيته السردية سنجد: أنه يمتاز بداية في سرده بما امتازت به الروايات الحديثة من قدرتها على الموازنة بين الحدث والوصف فلا طغيان لأحدهما على الآخر،وكنت قد نوهت عن ذلك في أمسية الرواية العربية على مسرح الأوبرا في القاهرة،وبينت أن أكثر ما يميز الرواية الحديثة لعبها بتوازن حرفي بين الحدث والوصف بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر،لكون طغيان الوصف يضعف الحدث بينما طغيان الأحداث يخفض المنولوج الداخلي للنص.
رودينا البطلة المكتسحة للنص ولكل تفاصيله في دبي هو اسم مشتق من الاسم العربي «ردينة» صانعة الرماح،يقابله الاسم الفرنسي الإسباني أوجيني وهي الملكة الفرنسية» أوجيني دي مونيتو كوتيسة « التي زارت الحرملك في عهد السلطان العثماني عبدالعزيز وأفقدته ملكه،وزارت مصر وأغرقتها بالديون.
وهي تقنية سردية استخدمها الشريف بحرفية عالية،في مقابل راشد الضابط القادم من رأس الشرفة للانطلاق إلى عالم النساء الذي أخبرنا الشريف أنهن جميعًا يضنين علينا بأسرارهن .
من التقنيات التي استخدمها الكاتب في سرده للحكاية تقنية سحب القارئ إلى قناعاته بعبارات منطقية ليمكنه «أي القارئ» من السير معه نحو تفاصيل قد تبدو لا معنى لها كقوله :» كان على يقين من أن ما يعتقده بعضهم تافهًا؛ قد يسقط عتاة المجرمين فهل كانت بالفعل كذلك؟!
لعل السؤال المهم الذي لربما يتبادر لكل قارئ للعمل: هل هذا النص ينتمي للروايات البوليسية أم للروايات الفلسفية،أم أنه رواية اجتماعية،بتقنية الأكشن،التي تستخدمها الأفلام السينمائية؟!
في الواقع أن كل هذه الاحتمالات ممكنة،ولكل من يراه في أحد هذه المسارات وجهة نظر مقدرة،تساندها الحيل السردية التي استخدمها الشريف في هذا النص،وكانت الأستاذة منى النمرسي المتخصصة في الدراما والنقد السينمائي قد أكدت من خلال ورقتها النقدية أن المشاهد السردية كتبت بالفعل بالمشهدية السينمائية المرئية بأدق تفاصيلها،ما يؤهلها لعمل سينمائي بسهولة كبيرة.
ولعله من الملاحظ أيضا أن النص السردي استخدم تقنية السرد المتعلقة بالقصة القصيرة،ذلك لكون تعدد الشخصيات الكبيرة هو مادعاه لهذه التقنيات كتكثيف الدلالة وإيجاز المعنى كقوله: «ماتقولينه يبدو منطقيًا وإن لم نقتنع به،لذلك لا تزال الأمور صعبة. «أوقوله:» صديقتي سهام من النوع اللعوب،يمكنها الدخول في علاقة حتى مع حارس الأمن أو سائق التاكسي أو عامل النظافة «. ربما نتفق أونختلف مع هذا الأسلوب الكتابي ولكن لا فرق طالما أن الرواية قد تعمد للتكثيف،وإن كنت أظن أن فتح المعنى على المعنى هي الأولى وقد تفتح المعاني في أماكن كان الأولى بها التكثيف.
قد يبدو واضحًا أن حمولة النص مسؤولية الكاتب وليس للناقد الدخول إلى هذه المنطقة المحرمة،وأظنني أنادي بذلك دائما في كل حواراتي النقدية،ولكن عندما تتعرض الحمولة لمناطق يرتخي فيها النص كثيرًا بالرغم من كونه محوريًا فقد أقول شيئًا عن الحمولة النصية،كاعتقادي أن الشريف لم يستطع إقناعي بتطور العلاقة الرومانسية بين راشد وردينا،وكان باستطاعته إراحة القارئ في فصل يخصصه لهذه العلاقة المهمة التي لربما ارتبطت بعنوان الرواية لكونه كتب «جريمة دبي»ولم يكتب» جريمة في دبي» وبالتأكيد لن تعفيه العبارة التي استخدمها لتبرير وصفه لتنامي العلاقة عندما قال «لحظات رائعة تلك التي جمعتها،لم يتوقعا خلالها ذوبان جبال الجليد بهذه البساطة،ووصولهما لإظهار مشاعرهما بهذا العنفوان،وهما يكسران حاجز الصمت.»
من الأشياء التي استوقفتني عبارة راشد في حديثه مع رودينا عندما قال: «قد لا تصدقيني لو أخبرتك أنني ولأول مرة أتمنى تقييد هذه القضية ضد مجهول،أشعر أن «جهاد» يستحق هذه النهاية...»
فهذه العبارة تعد مفتاحًا لحل الجريمة كلها،بينما لم تؤخذ كتقنية سردية لاستدراج المجرم، وإنما كان يقولها ضابط شرطة وكأنه فيلسوف إغريقي.
يؤخذ على الرواية أيضًا تصنعها في افتعال الحدث كالبقاء في المقبرة لانتظار حدث ما وقد وقع بالفعل،كذلك يؤخذ عليها تصنيع عبارات شخوصها بنفس المستوى اللغوي،فحارس القبور مثلًا،يتكلم كفيلسوف متخرج من السوربون،وللحق فهذا الخطأ أوقع بعض عمالقة الأدب في هذا المأزق لافتتانهم باللغة كأداة تعبير وليست وسيلة تعبير،منهم عميد الأدب العربي طه حسين،في رواية دعاء الكروان،فالخادمة غير المتعلمة في الفيلا تتكلم باللغة العربية الفصحى وقد أخذ عليه التمادي كثيرًا في ذلك.
وأخيرًا أود القول إننا أمام رواية تحمل خطا منفردًا،فهي ليست البوليسية رغم موضوع الجريمة الرئيسي،لكون نهايتها جاءت إغريقية مختلفة،وهي ليست اجتماعية،لأن العلاقات تنحو نحو هدف معين،وهو ما أحدثته الحركة في دبي من تعدد جنسيات الناس وأعراقهم في مدينة ليست بالكبيرة جدًا،وهي ليست فلسفية لأن الفلسفة لم تستخدم إلا في الجزء الأخير منها.
إن حامد الشريف يضعنا أمام نص روائي جديد،ربما تشكل مفصلًا في طريقة كتابة السرد العربي،أتمنى له المزيد من النجاح.
** **
- أحمد علي الشدوي