دائماً ما يثار التساؤل حول القهوة، هل هي ضرورية ليوم الإنسان؟، وهل يمكن للمرء أن يستغني عنها؟، هذه التساؤلات تتكرر هذه الأيام بين الأوروبيين بعد قيام الاتحاد الأوروبي بإصدار قانون يحظر بيع السلع المرتبطة بتدمير الغابات في إطار القرارات التي تستهدف مواجهة تغير المناخ ، هذا القرار أشعل أسعار أكواب القهوة بصورة باهظة جداً في المقاهي الأوروبية، بعضهم رأى أن القهوة مشروب رفاهية ويمكن الاستغناء عنها بصورة تدريجية، وبعضهم رأى أنها متعلقة بكينونة الإنسان ولا يمكن الاستغناء عنها بهذه السهولة، لكن الأمر المؤكد أن أغلبية الأوروبيين شرعوا بتقليل عدد الأكواب المستهلكة من القهوة تبعاً لأسعار البن الباهظة.
في العقد الأخير شهدت المنطقة العربية عموماً، والخليجية على وجه الخصوص هبة استثمارية كاسحة في إنشاء وتدشين المقاهي التجارية الحديثة ، وجلب أشهر ماركات القهوة العالمية، وفي خضم التنافس المحتد بين هذه المقاهي تم إغلاق العديد منها لكونها تفتقد للميزة التنافسية ولأنها استندت على منهجية التقليد أكثر من اعتمادها على منهجية فكر التميز والإبداع.
ومن الجدير بالقول أن لفظ قهوة عند العرب القدماء كان يطلق على الخمر كما قيل، وذلك لأنها تقهى شاربها عن الطعام والشراب أي تمنعه، وقيل لأنها تطغى شاربها عن النوم، فيصيبه السهر، ومن ذلك قول الشاعر الجاهلي المرقش الأصغر:
وما قهوة صهباء كالمسك ريحها
تعلى على الناجود طوراً وتقدح
وكقول الشاعر العباسي الشهير أبي نواس:
ياخاطب القهوة الصهباء بمهرها
بالرطل حتى يأخذ منها ملئه ذهبا
وكقول أبي تمام:
وقهوة كوكبها يزهر
يسطع منها المسك والعنبر
ويعتبر الصوفيون هم أول من أطلق لفظ القهوة على البن المعروف باعتبار أنه قهوة حلال، يضفي نشوة للعقل دون أن يصل به إلى مرحلة السكر حسب زعمهم!!.
وفي عالم الكتابة والإبداع الفني تقترن القهوة مع عملية الابتكار وتجلي الفن والإبداع، كثير من الكتاب والروائيين والصحفيين تكون القهوة قرينتهم أثناء عملية الكتابة، يقول أحدهم: رائحتها القادمة من مكان بعيد قادرة على أن تجعلني أتوغل في مدائن مسحورة ، تختطفني من نفسي ، وتغريني بالإيحاء ، وتملأ دواتي بالحبر، الروائي النوبلي الشهير نجيب محفوظ، كان يكتب إما في منزله أو في مقهى الفيشاوي مع ضجيج الناس والمارة، وكان أثناء الكتابة يتناول ثلاثة فناجين من القهوة السوداء، وكذلك كان الروائي العراقي جبور دويهي الذي يقول: أنا رجل عادات ومقاهي، حيث اختار مقهى متوسط الضجيج، وبعد أن أحس بنشوة القهوة أشرع في الكتابة، الكاتب والطبيب السوداني أمير تاج السر، صاحب صائد اليرقات يقول عن طقوسه أثناء الكتابة: «أشرب القهوة بكثرة وقت الكتابة حتى ينتهي النص، في الماضي كنت أدخن السيجارة كثيراً، لكنني تركت التدخين منذ سنوات، واستطعت أن أواصل الكتابة بلا سجائر وأكتفي بأكواب القهوة الساخنة»، أما الروائي الفرنسي الشهير بلزاك، فلا يبدأ الكتابة إلا عندما يضع بجواره طنجرة مليئة بالقهوة، فكان يشرب يومياً ما يقارب 50 فنجاناً من القهوة!! وقيل إن تلك العادة الغريبة كانت من عادات الفيلسوف الفرنسي فولتير أيضاً!! .
في كتاب تاريخ القهوة العربية للكاتب والشاعر محمد غبريس، والصادر عن دار المحيط للنشر في الإمارات العربية المتحدة، يشير الكاتب إلى أن القهوة كانت ولا تزال رفيقة المبدعين التي لا تفارق لحظات تجليهم وومضات فكرهم، وهي الساهرة على كتاباتهم ونزيف أقلامهم، والشاهدة على كل دمع سكبوه، وكل حرف عانقوه، وكل حبّ حولوه، إما إلى قصيدة تفيض بالحنين، أو إلى واحة تتلألأ بالذكريات، أو قطعة موسيقى تبعث على الأمل، أو فيلم يشعّ بالدهشة، وهي أيضا النافذة التي تنفتح على البهجة والأفكار واليقظة ، تتسلل تحت الجلد وتذوب في الأنفاس ،،، وحدها القهوة تبقى حين لا يبقى أحد، وحين يشتدّ الحزن، ويضيق الكون، ويموج اليأس، وحدها القهوة تتّسع إلى كلّ الأحلام والرؤى في كوب صغير يحفظ أسارير اليدين ومتاهات الشفتين ، بها يلملم الشعراء حبّات الوقت، ويطلون وجوههم بالصباحات المشرقة، وبها يطلقون خيالاتهم في فضاءات الحكمة وآفاق الكلمة.
هذا الأمر قد يعيدنا إلى نبش تاريخ القهوة القديم، حيث تعود أسطورة اكتشاف القهوة إلى راع بدوي إثيوبي كان يعيش على سفوح الجبال المطلة على الوادي المتصدع في الحبشة، وقد لاحظ حينها أن إحدى أغنامه كانت تقفز بصورة متكررة، فظل يتأمل فرط حركتها ونشاطها العجيب، وقد قادته المراقبة الفاحصة إلى شجرة البن التي كانت تتغذى عليها تلك الأغنام، وبعد ذلك بدأ الأحباش في معرفة القهوة لكنهم لم يكونوا يحتسوها بمفهوم الشرب وإنما كانوا يمضغونها في فمهم، وعلى الرغم من اكتشاف القهوة على ضفاف أودية الحبشة إلا أن تجارتها الحقيقية كانت في جنوب الجزيرة العربية حيث كان البن سلعة ثمينة تحتكرها موانئ اليمن المطلة على البحر الأحمر، لقد بقي الاحتكار العربي لزراعة وتصدير البن ما يقارب الثلاثة قرون، من القرن الخامس عشر الميلادي حتى نهاية القرن السابع عشر، وعندما وصلت أولى شحنات البن إلى إيطاليا وافتتوا بهذا المشروب تحولت القهوة إلى ماركة تجارية أطلقوا عليها قهوة الموكا نسبة إلى ميناء المخا المطل على البحر الأحمر .
يقال في بعض أدبيات القهوة أن العالم الصوفي السيد علي بن عمر الشاذلي المتوفي في المخا عام 1418م ، هو أول من نقل بذور القهوة من جنوب غرب الحبشة إلى اليمن، وأول من احتساها كمشروب، وبعدها عمت كثقافة عامة في اليمن وجنوب الجزيرة العربية عموماً، وعلى أيدي طلبة العلم اليمنيين الذين كانوا يتلقون الدروس الشرعية في جامع الأزهر في القاهرة انتقلت القهوة إلى مصر، ويقال إن علماء مصر في ذلك الزمن كانوا يحرمون تناول البن، وأن النقطة الحاسمة في تحول النظرة كانت بعد أن رأوا نشاط اليمنيين في أداء صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك وتميزهم عن سواهم من طلبة الأقطار الأخرى !!.
وبعد ذيوع مشروب القهوة في الأقاليم المصرية ، انتقلت عن طريق الطلاب الوافدين في الأزهر إلى المغرب العربي وبلاد الشام والعراق ، ومن مصر انتقلت القهوة إلى تركيا ، وهناك بدأت طرق جديدة في تحميص البن إلى درجة السواد ، ثم عادت إلى مصر وحتى إلى اليمن نفسها بهذه الطريقة الجديدة ، أما وصولها إلى باقي الجزيرة العربية كالحجاز فأعتقد أنه كان قبل وصولها إلى مصر نتيجة للتبادل التجاري الممتد بين اليمن ومكة والمدينة عن طريق الحج والعمرة.
في ذلك الوقت، وأعني من القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر، كان اليمنيون يسيطرون على تجارة البن عالمياً، حيث وصل إنتاج القهوة عالمياً إلى 40 ألف طن ، يصل نصيب اليمن منها حوالي 35 ألف طن لوحدها، ولهذا كان اليمنيون يراقبون البذور بإحكام لا نظير له ، يحتكرون هذه الزراعة الثمينة ولا يسمحون بتهريبها خارج الحدود ، وفي غفلة من الزمن ، وقعت حادثة شهيرة حصلت في عام 1699م ، عندما تمكن تاجر هولندي من سرقة وتهريب كمية قليلة من البذور في قطعة قماش واتجه بها إلى موطنه في العاصمة الهولندية أمستردام ، حيث قام بزراعة أشجار البن بعيداً عن مواطنها المعروفة ، وبدأ الهولنديون في أوروبا يمارسون تجارة البن في أوروبا ويرسلون الشحنات إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا ، وبعدها انتقلت زراعة البن إلى المستعمرات الهولندية في جنوب شرق آسيا ، وتعد اندونيسيا اليوم من كبار منتجي القهوة في العالم ، ويعد بن سومطرة من أشهر منتجات القهوة في آسيا حيث يتميز بمذاقه الفريد ورائحته التي تمثل خليط من التوابل والتراب !
الآن ، يزرع البن حول العالم في شريط جغرافي وهمي يسمى حزام القهوة ، حيث يمتد من الشمال إلى الجنوب بين مداري الجدي والسرطان ، ويمر خلال سبعين دولة تتوزع بين قارات العالم ، وتتميز مناخات هذه الدول بأنها ذات طبيعة استوائية وتوفر بيئة مثالية لزراعة البن ،
تشكل البرازيل اليوم، الدولة الأكثر إنتاجاً للقهوة في العالم، كما تنتج نوعا ثمينا للقهوة في العالم من حبوب مستخرجة من روث الجاكو ، وهو نوع من أنواع طيور الدراج التي تعيش في الغابات الاستوائية ، ينمو بريش أسود وحلق قرمزي ، ويبلغ سعر الكيلوغرام الواحد من هذه القهوة بحوالي 230 دولار أمريكي ، ويتميز البن البرازيلي عموماً بشهرته عالمياً نظراً لإبداعية تسويق منتجاته باحترافية ذكية حول العالم ، أما أغلى قهوة في العالم فتسمى بقهوة الزباد ، وتنتج من فضلات حيوان آسيوي مشهور في جزيرة بالي الإندونيسية ، حيث يتوافد السياح من جميع أنحاء العالم إلى تلك الجزيرة السياحية من اجل التعرف على طريقة إعداد القهوة الأغلى سعراً في العالم ، حيث يثمن الكيلو غرام الواحد بحوالي 1200 دولار أمريكي، وفي عالم القهوة العالمية تصنف قهوة الزباد المعروفة باسم كوبي لواك أو قهوة الزباد المصنوعة كما ذكرنا من فضلات حيوان ثديي محلي صغير!!.
صورة تجارة البن اليوم مختلفة عما كانت عليه في السابق، حيث حدثت انتكاسة مريعة في اليمن عندما استبدلت أشجار البن بأشجار القات، وظهرت على القائمة موانئ جديدة ومحورية في تجارة البن العالمية بإعادة تغليف وتصدير القهوة مثل ميناء دبي، أما في المملكة العربية السعودية فقد بدأ تشجيع المزارعين في زراعة البن السعودي وتقديم الدعم اللازم لهم من أجل تحسين الجودة والمنافسة عالمياً ، وقد تم تسمية عام 2022م بعام القهوة السعودية، كما تعتبر القهوة في المملكة اليوم جزءاً أساسياً من الموروث الثقافي والحضاري، وهي جزء رسمي من التقاليد الاجتماعية ، بالإضافة إلى أن القهوة السعودية تتميز بنكهتها الفريدة والمميزة والتي أضحت علامة تجارية متفوقة في سوق القهوة العالمي .
وفي الختام .. تأمل أخي القارئ الكريم كيف هي حكاية القهوة مع الإنسان؟ مع الدول اقتصاد وثروة قومية، ومع المجتمعات ثقافة وأصالة ، ومع الزهاد عبادة وتوسل ، وعند العامة كيف ومزاج ومع الكتاب والأدباء إبداع وخيال.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814