إن عظيم قدرة الله وحكمته اختلافُ ألسن الناس ولغاتهم ولهجاتهم؛ قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ»؛ قال ابن كثير وقوله: «وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ»: يعني: اللغات.
والألسنة: جمع لسان، وهو يطلق على اللغة؛ كما في قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ»، وقوله: «لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ».
وقد اختلف الناس في أفضل اللغات وذهب كل قوم إلى أن لغتهم أفضل اللغات، وأنكر ابن حزم أن تكون العربية أفضل اللغات، ولم يذكر دليلاً على نفيه، وذهب ابن فارس إلى أن العربية أفضل اللغات وبين مراتب البيان بسعة اللغة في ألفاظها، والتعبير عن الشيء الواحد بألفاظ عديدة، وبيانها بالمجاز والكنايات، وقدرتها على التخفيف في ألفاظها بالحذف والقلب والإضمار.
ومن فضل الله على أمتنا أمة الإسلام أنْ فضَّلنا باللغة العربية لغة القرآن، ورزقنا أفضل لسان؛ قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»؛ وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتُدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ»؛ بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.
وقال ابن عاشور مؤكدًا على أفضلية لغة العرب لغةِ القرآن في تفسير قوله تعالى: «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»: «فإن لغة العرب أفصح اللغات وأوسعها؛ لاحتمال المعاني الدقيقة الشريفة مع الاختصار، فإن ما في أساليب نَظَمِ كلام العرب من علامات الإعراب، والتقديم والتأخير، وغير ذلك، والحقيقة والمجاز والكناية، وما في سَعَةِ اللغة من الترادف، وأسماء المعاني المقيدة، وما فيها من المحسنات، ما يلج بالمعاني إلى العقول سهلةً متمكنةً، فقدَّر الله تعالى هذه اللغة أن تكون هي لغة كتابه الذي خاطب به كافة الناس».
لقد تحدى القرآن العرب كل العرب، وكرر عليهم التحدي في صور شتى؛ فدعاهم أن يأتوا بمثله، ثم أن يأتوا بعشر سور مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة مثله، ثم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وأباح لهم – مع ذلك – أن يستعينوا بمن شاؤوا، ومع ذلك كله استيأسوا من قدراتهم، واستيقنوا عجزهم، ولم يستطع أحد أن يقف أمام التحدي القائم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فإن دلَّ ذلك فإنما يدل على جمال وتفرد لغة القرآن؛ وقد صدق الله إذ يقول: «لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ».
فالرسالة المحمدية معجزتها لغوية تميزت عن بقية الرسالات؛ بلغة تتناسب مع إعجازها، وهذا يجعل لغتها متميزة عن بقية لغات الكتب الأخر. وقد قال بعض العلماء بعدما ذكر مراتب البيان عند العرب من الاستعارة، والتمثيل، والقلب، والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب: لا يقدر أحد من التراجم أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسنة، كما نُقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية، والرومية، وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله - عز وجل - إلى العربية؛ لأن العجم لم تتسع في المجاز اتساع العرب.
** **
- محمد الخنين
aooa14301@