يتجه العلم بشكل متزايد نحو التخصص في العلوم المختلفة تبعا لاتساع المعارف الإنسانية وتراكم الخبرات، ولا يقف الأمر عند حدود العلوم الطبيعية أو التطبيقية، وإنما يتجاوز ذلك إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية.
وخلال العقود الأخيرة، وبفضل جهود الهيئات المعنية بالآثار والتراث، جرى الكشف عن الآلاف من المواقع الأثرية التي تؤكد قدم الاستيطان البشري في شبه الجزيرة العربية، فضلا عن حصر وتسجيل أعداد هائلة من الرسوم والنقوش والكتابات التي اتخذت من الواجهات الصخرية في أرجاء المملكة العربية السعودية ميدانا فسيحا للتعبير عن النشاطات البشرية والأحداث بل والمشاعر الدينية والشخصية.
وكان من الطبيعي مع هذا الزخم المتزايد من المعلومات التاريخية والمعطيات الحضارية والكنوز الفنية أن يشهد حقل الدراسات الأثرية نشأة نظريات جديدة في كافة التخصصات الفرعية لعلم الآثار سواء في عصور ما قبل التاريخ أو في العصور التاريخية بمختلف حقبها الزمنية.
وليس من قبيل المبالغة في شيء القول بأن تأثير هذا التراكم المعرفي كان أكثر نجاعة فيما يتصل بالنظريات العتيقة التي حاولت التصدي لسبر أغوار نشأة الكتابة العربية اعتمادا على نقوش متناثرة ذلك أن الاكتشافات الأثرية المهمة ولاسيما في شمال وشمال غرب وجنوب المملكة العربية السعودية قد أزاحت النقاب عن نقوش أكدت وفقا للدراسات الأكاديمية المنشورة أن تلك المنطقة هي أصل ومهد نشأة الحرف العربي وصولا لبداية البعثة النبوية.
ذلك ابتداء، والحقيقة التي لا يرقى إليها الشك أن أراضي المملكة العربية السعودية وبشكل أكثر تركيزا منطقة الحجاز استمرت ترفد الخط العربي في أرجاء دار الإسلام بتقاليده وبالكتاب بشكل منفرد إلى النصف الأخير من القرن الثاني الهجري (8 م) على أقل تقدير، فضلا عن الاستمرار في تطوير وتحسين الخط العربي بالقدرات الذاتية داخل منطقة لم تكن بحال من الأحوال منطقة بحاجة لاستقدام خطاطين من خارجها بل إنها كانت منطقة ترفد أقاليم الإسلام بكتاب الدواوين منذ تعريبها جنبا إلى جنب مع الكفاءات القيادية والعلمية التي تقلدت أرفع المناصب في مختلف بقاع دار الإسلام إلى مشارف العصر الحديث.
وإذا ما قصرنا الحديث على مجال الخط العربي فإن الثروة الهائلة والشديدة التنوع التي تمتلكها المملكة العربية السعودية من النقوش والكتابات سواء التأسيسية منها، أو التذكارية، أو الجنائزية، أو تلك التي نعاينها في المصاحف والمخطوطات تؤكد بما لا يترك مجالا للبس أو تأويل أن التطوير الذاتي للخط العربي ظل أمرا رياديا لمكة المكرمة والمدينة المنورة إلى نهاية القرن السادس الهجري (12م) على أقل تقدير.
يمكن القول بكل اطمئنان: إن افتراض أن دور جزيرة العرب في تطوير الخط العربي وتحسين طابعه الفني قد انقطع بعد القرن الهجري الأول وباتت عالة على غيرها من أقاليم دار الإسلام ليس أكثر من ظن لا سند له من علم بل وتناقضه عدة مئات من النقوش المؤرخة والتي تفصح عن أسماء بعض من الخطاطين الأوائل الذين قاموا بإنجازها بأكبر قدر من الدقة الفنية.
وترتيبا على تلك الحقيقة التاريخية فإنه لا يمكن التعويل على نقوش الأفراد الذين تتباين مهاراتهم الخطية من أمثال زهير، وجذيم بن علي بن هبيرة، وابن وهران وغيرهم من عشرات الآلاف من عامة الناس الذين خلفوا نقوشا تحمل أسمائهم لا يمكن التعويل على نقوشهم لاستنباط النمط الأصيل الذي كان سائدا في أراضي المملكة، كما لا يمكن اعتبار خطوط أيا من هؤلاء مهما بدت حسنة ومنتظمة نهاية ما وصل إليه سكان جزيرة العرب من تطوير للخط العربي لأن في ذلك الافتراض إنكارا لفضل أجيال من الخطاطين استمروا في جهود التحسين والتجويد، بل إن بعض هؤلاء أحرز شهرة طبقت الآفاق، حتى إننا نجد نماذج من أعمالهم في مصر مثل مبارك المكي، بل في جزيرة دهلك مثل ابن حرمي المكي وأبنائه.
ولقد نشرت بالفعل أبحاث علمية معتبرة باللغة العربية وبلغات أجنبية عن بعض هؤلاء المشاهير من الخطاطين تذهب إلى أن تلك الأعمال الرائدة التي تحمل توقيعاتهم ربما ذهبوا هم بأنفسهم لتنفيذها في هذه الأصقاع البعيدة أو قاموا - وهو الأرجح - بتنفيذها بناء على طلب مسبق ونقلت من مكة إلى حيث تم العثور عليها.
وجلية الأمر أن قصاد العاصمتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة وهم يعاينون خلال أداء شعائرهم شواهد مقابر أعلام المسلمين بما تزخر به من رونق الخط العربي وأسلوب الكتابة طمحوا دوما إلى أن توضع على مقابرهم أشباه لتلك الشواهد إلى درجة أنهم كانوا يصطحبون معهم من مكة على وجه اليقين شواهد تحمل أسماءهم دون تسجيل لتاريخ الوفاة لتوضع على قبورهم.
وتعد شواهد مقبرة المعلاة في مكة المكرمة بمفردها خير دليل على ريادة مدرسة الخط العربي التي نشأت وازدهرت بجهد ذاتي من أبناء مكة خاصة، مع حرص المكيين على أن تضم المعلاة رفاتهم وكان الحرص أشد على ذلك من قبل الحجاج والمعتمرين والمجاورين.
ويكفي أن نشير هنا إلى أن ثمة توقيعات لعدد كبير من الخطاطين على شواهد سجلت كتاباتها بأنماط مختلفة من الخطوط اليابسة المعروفة اصطلاحا بالخط الحاد الزوايا (الكوفي) بل كذلك بأنماط مختلفة من خطوط النساخ.
ولعله من المفيد هنا الإشارة إلى أن مقبرة المعلاة ظهرت بها شواهد نقشت باستخدام خط النسخ منذ 549هـ أي قبل نحو قرن من الزمان من ظهور خط النسخ على نقود الأيوبيين في مصر والشام الذي يعد حدثا فارقا في التخلي عن استخدام الخط اليابس (الكوفي) في الكتابات التسجيلية سواء على العملات أو العمائر.
وإذا كان من الملائم في تلك المرحلة المهمة من تاريخ المملكة البحث عن هوية متفردة أو بالأدق السعي لإسهام أصيل في تطوير وتحسين الخط العربي في القوالب الإلكترونية فإن هذا السعي ينبغي أن ينطلق من حقيقة أن أرض المملكة العربية السعودية لم تنقطع فيها الكتابة الفنية يوما وأنها لم تكن لتعتمد على خطاطين من خارجها ولاسيما في العاصمتين المقدستين.
ويضاف لذلك أن النقوش الشاهدية والتأسيسية فيها وكذلك كتابات المسكوكات التي ضربت في مكة المكرمة وفي اليمامة قد نفذت بأيدي محترفين مؤهلين وموثوقين بشكل رسمي وذلك أمر لا يمكن التنكر له أو تجاهله.
وبقول آخر فإن الأكثر علمية ودقة هو الاعتماد على النماذج التي كتبها من اشتغلوا بمهنة الكتابة والخط سواء من عمل منهم مع الجهات الرسمية لنقش النصوص التأسيسية للمنشآت المعمارية المختلفة أو لحفر قوالب المسكوكات ولاسيما تلك التي تحمل اسم دار ضرب مكة ودار ضرب اليمامة أو من عمل منهم في ورش خاصة عنيت بنقش شواهد القبور وخاصة في مكة المكرمة التي تفردت بمدرسة فنية رائدة غزيرة الإنتاج.
ولربما يكون من الملائم في ختام تلك الأسطر الإشارة إلى أن لدينا نماذج من خطوط بعض خطاطينا الأوائل المبدعين والذين على درجة من الاحتراف يمكن الاعتماد عليها لصياغة خط خاص يلقى الانتشار الواسع بين مستخدمي الطباعة العربية بقدر ما يفصح عن الشخصية الوطنية وعمق إسهامها الفريد في نشأة وتطور الخط العربي
ومن أبرز هؤلاء «عبدالرحمن بن فتوح بن بنين بن عبدالرحمن بن عبد الجبار المكي» المتوفى عام 654هـ وهو صاحب مدرسة ينتمي إليها بعض أولاده وأفراد من أسرته وقد عثر على شواهد مقابر لتلك المدرسة الفنية في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة وكذا في جزيرة دهلك.
ومهما يكن من أمر الغوص في الإرث الهائل من النقوش الكتابية التي تحتضنها متاحف وجبال المملكة العربية السعودية للبحث عن النمط الأكثر تعبيرا عن الشخصية المتفردة لإسهامات خطاطينا القدامى فإنه يمكن بصفة أولية ترجيح أن يكون السعي مركزا للوصول إلى نمطين رئيسين يعبران علميا عن حقيقة طابع الخط العربي منذ بداياته الأولى على أرض المملكة من حيث اشتماله على اليبوسة والليونة معا.
النمط الأول وهو الخط اليابس (الحاد الزوايا) وهو الخط المعروف اصطلاحا بالخط الكوفي في اعتراف بدور الخطاطين الحجازيين الذين عملوا بالمدينة التي أسست لتكون مقرا لجيوش الفتوحات.
أما النمط الثاني فهو الخط اللين المعروف بالنسخ لكثرة استخدامه من قبل النساخ سواء في الدواوين أو إنتاج المصاحف والمخطوطات وهو خط أصبح منذ القرن السابع الهجري (13م) خطا رسميا معتمدا في تنفيذ النقوش التأسيسية للعمائر وكتابات المسكوكات الإسلامية بعدما سبقت شواهد مقبرة المعلاة إليه قبل ذلك بنحو قرن من الزمان كما أسلفنا القول.
إن الزخم الهائل من النقوش التي تمتلكها المملكة العربية السعودية والتي نقشها وخطها عدد وافر ممن احترفوا مهنة الخط ليشكل ميدانا رحبا للباحث المدقق في سعيه لاستنباط الأنماط المتفردة الخاصة بأجدادنا الذين رعوا نشأة الخط العربي واحتضنوا جهود تجويده دون انقطاع تاريخي.
** **
أ.د. مشلح بن كميخ المريخي - أستاذ الكتابات العربية المبكرة والإسلامية - جامعة الملك سعود