من نحن غير الأسماء والصور والذكريات والتفاتٌ لا هو يعود بنا ولا نحن ننجو به، هذا ما اشتغل عليه محمد التركي منذ الأغاني التي بيننا 2017 م. لكن محمد التركي في ديوانه الجديد والذي يحمل عنواناً لافتاً «قسم المفقودين» 2023 م بلغة فاتنة مطواعة تتّسع لكل هذا القلق الوجودي قلّب الأمر من كل الزوايا فلم يجد مخرجاً، ولن يجد.
في البدء لا أعلم حقَّاً هل ارتباط الشعر بالزمن ارتباطٌ وجوديٌّ، حيث يغمس الشاعر يديه في نهر هذا الوجود الخارجيّ مذ كان ماضياً، إلى أن يحاول القبض عليه في لحظة «الآن» إلى أن يُراهن عليه - إن استطاع - مستقبلاً كرؤيا تتخطّى الزمن وتتبنّاه. يقول المتنبّي:
أريد من زمني ذا أن يبلّغني
ما ليس يبلغهُ من نفسه الزمنُ
الأمر في ظنّي ليس غنائم شخصية ناجزة، بل هو المعركة الكبرى أمام الشعر. كيف للشعر أن يدخل غابة الزمن هذه وينجو ـ أقصد على مستوى الفنّ - هل يُراهن الشعر على الزمن؟!.. على سبيل المثال تُراهن الرواية بشكلٍ أكبر على المكان وتنطلق منه. أتذكّر الآن دراسةً في «المنور» وهي مبادرة بحثية، كانت الدراسة تتحدّث عن « سيرة المكان في الرواية السعودية « للقاص عبد الله ناصر بحيث تناقش هذا الارتباط الخاص بين الرواية والمكان تشبّثاً وإقصاءً وانعكاسات ذلك على فنّ الرواية. هل للشعر أن يعبر النهر؟!
في ديوان «قسم المفقودين» سنجد إذا ما تأمّلنا بقدرٍ كافٍ أنّ مأزق الإنسان الحقيقيّ هو هذا الزمن:
لا يسمح لنا الزمن كما يفعل النهر
بتحسس الماء القادم من البعيد
بأطراف أصابعنا
لا نقيس برودة الماء
ولا سرعة التيار
نقفز كما يفعل المنتحرون
في زمن آخر..
المتاهة إذن هي الزمن نفسه ولا نملك خياراتٍ إزاء ذلك:
أتقدّم لأنني لا أملك خياراً
أبحث عن نفسي
تحت الأيام الجديدة
في ثقوب المستقبل
في مخابئ الغد
وهي تسكن يوماً لا يحقّ لي العودة إليه
بعيداً عن أعين الوقت
أرسم خريطة العودة
خطوطاً من الذكريات التي ما تزال متماسكة
وأحاول الخروج
لكنني أعلق
في متاهة الزمن ..
يضع الشاعر أناه في هذا المجرى - الذي لا يجري كما يجري النهر - يضعها على بُعد مسافةٍ ما ليتأكد من وجودها:
مثل شبحٍ متأكدٍ من كل شيءٍ
لكنه لا يجد وسيلةً واحدةً للتأكد من .. وجوده
يجد الشاعر نفسه غارقاً في هذا الوجود؛ لذا تجد مفردات البحر تسيطر على كثير من نصوص الديوان من مثل: « الغرقى / الموج / الطوفان / القوارب .... «وحتى على مستوى العناوين تجد احتفاءً حاداً بالبحر ودلالاته مثل: « قصيدة اسمها البحر» و «احتفاءً بالغرق».
يحاول هذا العالق في «الزمن/ الوجود» لكن دون جدوى:
أحاول أن أكسب معركة الزمن العمياء
هذا الانكشاف على مأزق «الزمن/ الوجود» لم يأتِ مصادفةً، لقد أخذ العمر كله:
لقد احتلّت عادات الجلوس قُبالة الوقت
كامل وقتي
الممارسات الثقيلة لشخصٍ يفكّر في وقف الحرب
وهزائم الوقت المحتملة
من أين لي بجهلٍ طفوليٍّ
يذهب بي إلى حافة العالم كلّ يومٍ
دون أن تزعجه فكرة القفز في الفراغ
جهلٌ تامٌّ
يحمل اسمي كاملاً
ويترك لي مكانه مطلع قصيدة جاهلية
أو شارة مسلسل للأطفال
أين أجد فراغاً رحبا
لا تختبئ فيه عقارب الساعة
ولا يلدغني فيه ضمير المواعيد المؤجّلة ..
وماذا بعد، ما الذي نملكه من كل هذا، ليس لنا إلا هذه اللحظة «الآن» كما يسمّيها محمد التركي ويخسرها بسخرية لاذعة في اللحظة ذاتها التي يمسك بها هذا «الآن»:
ليس لديّ سوى «الآن»
ولكنني لا أدري ماذا أفعل بها
إنه مثل قطعة نقدية صدئة
أرميها في الهواء
كما لو كنت أجري قرعةً مع نفسي
وأختار كتابة بدلا من صورة
ولكنّ العملة تبقى طائرة في السماء
فأبقى عالقاً خارج الزمن
منتظراً «الآن»
لقطة بديعة وموجعة في آن. حتى «الآن» هذا الوجود الحقيقيّ جداً، الذي نكاد نلمسه بأيدينا يتأرجح بين وهم امتلاكه ويقين خسارته. بالرغم من أنّ:
الزمن شيءٌ واحدٌ
الآن هو الغد والأمس
لحظة واحدة
ممتلئة بسكون الخيبات
وضجيج الأفراح
بقبر الأضداد في رؤية المعرّي ...
يعترف لا يأساً بل إدراكاً:
سأنصب الكثير من الاستعارات
وسيصبح الآن صعباً
سيكون حلماً بعيداً جداً
لذا فإن محمد التركي يحتال على هذا «الآن» الذي نفقده حالما نملكه، يحتال على هذا الوجود الغارق في الزمن بشعريةٍ لافتة بالإمكان إيجازها في ثلاث طرق:
أولاً: الاحتفاء بالتفاصيل اليومية المتشابكة والمتناقضة أحياناً، أو احتفاءً بالغرق كما يقترح محمد التركي كعنوان لإحدى قصائد الديوان:
نحتفي به، لأن معركتنا مع الماء ان تهت لصالحه
وهو لا يحب أن ينتصر على الخاسرين
يحتفي بنا لأننا أبناء الطوفان
الذي أخذناه على محمل الجدّ
يحتفي بكل شيء في هذا الكون ليتأكد من وجوده أو ليخلق له وجوداً ثانياً:
أتأكد مراراً من وجود الأشياء في مكانها
الشمس في السماء
الأرض تحت قدميّ
مفاتيح البيت والمحفظة في جيب
وهاتفي في الجيب الآخر
الكتاب الذي أود قراءته في الحقيبة
يحتفي بكل المعاش اليوميّ الحادث لا محالة، ويتصالح معه:
لنتصالح
مع سيولة الحب والكراهية
ونجتمع
أعداءً وعشاقاً
دون أن نمنح القناص في أواخر الجمل
فرصاً للاختباء
.....
الآن، لنسامح هذه المدينة
والمواقف البعيدة
وجسور المشاة
والخرائط المفقودة
والنخيل التي امتدّت أكثر منّا
والمساء التي لا تلمسها نظراتنا
......
الآن، سنتوقف عن العمر تماما
ونشرب أغنية محايدة
لا ترحّب بالغرقى
ولا أحد يشهق، آخرها
ثانياً: الاحتفاء بالنقصان، بعدم الاكتمال الذي لن يكتمل، باللحظات المعلّقة التي لم تحدث بعد لتكون « الآن « ولا تنقضي تماماً لتكون مكاناً للعود الأبديّ:
ما المميّز في العود الأبديّ
إذا كانت هذه اللحظة
ستطاردنا
في كل حياةٍ ..
وهذا الاحتفاء بعدم الاكتمال يتوزّع على معظم صفحات الديوان تقريباً، نذكر منها:
- من هشّم ذاكرتي لم يجمع فتاتها كاملاً ترك لي بقايا من أسماء وعناوين أشخاص وأنصاف قصائد
- ستحاكمك الحياة على محاولات الهروب من القفص ..
- ريثما أخيّب توقعات المنجّمين وخبراء الأرصاد
- يلومونني على نسيان الوقت والحذر من الاحتفال بعيد الميلاد وتصفّح قوائم الرسائل المؤرشفة والبريد الذي تعذَر إرساله
- أرفض اقتراحات محركات البحث للكلمات التي نسيتها
- لم أبدأ شيئاً فمن أين لي كل هذه النهايات؟
- حين لا أكمل كتاباً يبقى مفتوحاً في ذاكرتي
- ماذا أصنع بهذا القلب المثقوب؟
- رغم ذلك أنا ما زلت ساحراً بفعل أشياء عادية كالاكتفاء بالصمت أمام حدث لا يعجبني ..
- من علمنا محايلة الزمن والدخول في لعبة غميمة تركها الأطفال مهجورة دون تحديد الفائز .. ؟
- كل شيء سطحي وقابل للنسيان والسخرية لا أحد سيترك فرحاً غامراً ولا ندبة في القلب ..
- أحنّ إلى تلك الكلمات التي لا أتذكرها تماماً وربما لم أكتبها بعد وأبتسم
- كانت خريطتنا متاهة، وكنا ضائعين
- الأبواب التي عاشت قصص الرجوع وقصص الصدود، التي طُرقت دون أن تُفتح أحياناً وفُتحت قبل أن تُطرق أحياناً وبقيت مواربةً أحياناً من أجل غائبٍ لم يجئ
- أن أكمل فراغ خطاك على الأرصفة فراغ الأحلام في مناماتك فراغ القلق عليّ
- وأفيق من أحلام لا أكون فيها بطلا، بل شخصاً يموت دون إذن الكاتب والمخرج، لأسبابٍ لا تتعلّق بالنصّ.
ثالثاً: الرفض، بالرغم من محاولات الاحتفاء بهذا الوجود، الاحتفاء حدّ الغرق، والتصالح مع هذا الزمن، التصالح حدّ المرور الخفيف إلى نهاية مجهولة. إلا أن خيار الرفض كان دائما مطروحاً على الطاولة، يصرخ الشاعر حيناً:
أرفض أن يأخذني العالم
أن أذوب في هذا الهواء الخشن
أن أتمرّغ في الدخان الكثيف
أرفض بقدرات سلحفاةٍ
تظنّ أنّ قشرتها الصلبة أقوى من الكوكب
مثل قنفذٍ يفضّل الشوك على ورود حدائق الأرض
أرفض هذه الرحلة
نحو المجهول
مسافة الوصول المقدّرة بعمرين
والتذاكر المؤكدة لطائرة لا يعرفها الرادار
ويأمل الشاعر أحيانا بهدوء الخروج من كل هذا:
أنسحب دون وداعٍ، ودون همزة للألف، أريد الخروج خفيفاً، مثل كلمة لم تكتب على السطر، ولم تضبط لغوياً، ولم تُقرأ ..
أريد أن أختفي، فالخروج من الأبواب أصبح تقليداً ثقيلاً للوداعات، أن أتضبّب على الزجاج، أو أصبح دخاناً وأسافر عبر رئات المنهكين..
في ديوان «قسم المفقودين « يقدّم لنا محمد التركي عزاءً شعريّاً لإنسانٍ قُذف إلى هذا الوجود على حدّ تعبير هايدجر، كي ندرك أن هذه الحياة بكل ضجيجها وتناقضاتها وأفراحها وخيباتها هي ذاتها دون ريب « قسم المفقودين «!
خاتمة:
يقول محمد التركي في قطعة شعرية توجز كل شيء:
انكسرت المزهريةُ
ولم نرفع الورود عن الأرض
ولا كنسنا بقايا الزجاج
ظللنا نتحاشى الكِسَرَ حتى لا تجرحنا
والورود
حتى لا نجرحها..
** **
- محمد إبراهيم يعقوب