من نِعَمِ اللهِ عليَّ حين التحقت ببرنامج الدكتوراه في جامعة الملك سعود أنني لم أتتلمذ إلا على أفذاذ، وتلك نعمةٌ تُذكَرُ وتُشكر، وكان منهم أستاذنا الفذّ موضوع هذا الملف، الذي حملتني الدعوة إلى المشاركة فيه عبئًا كبيرًا! فأنا أعي جيدًا عمَّن أتحدث، وأدرك حدود قدرتي في التحدث عن مثل هذه القامة، وأعلم أن مستوى حديثي لن يرقى إلى شيءٍ مما تستحقه، فلست في مقام من يحسن الكتابة حول هذه الشخصية التي دعيت إليها بين أقلام نخبة. ولكنني استكمالاً لشعور الامتنان (للهِ عز وجل)، وتحدثًا بالنعمة، وإشادةً وإشارةً إلى النموذج (القدوة)، لنا، ولمن يسير على دربنا، واستجابة لقلمي الذي تعوَّد أن يقول للمُحسِن - في أي مقامٍ- أحسنت، أجدُها فرصة سانحة لتسجيل انطباعات حول بعض الجوانب العلمية والخُلُقية، التي لفتتني باحثةً وسُجِّلت كملحوظاتٍ (تحتذى) خلال مدة لم تتجاوز فصلاً دراسيًا واحدًا. ولعلي أختصر هذه الملحوظات بمختلف مشاهدها في أمرين أحدهما يتعلق بالجانب العلمي/النقدي، والآخر بالجانب التعاملي الخُلُقي.
- فأشد ما يلفت النظر في الجانب العلمي، أو في شخصيته ناقدًا: (الموضوعية المتناهية) في نقد النصوص والتعامل معها: فهو حين يتعامل مع النص يتعامل معه من حيث هو نص، بحرفية نقدية عالية، حتى ليمكن القول-في وصف هذا الملحظ- (احترام عقلية النص)، ولا أقول عقلية الكاتب! كأن للنصِّ نفسِه -بغض النظر عن كاتبه- (عقلية) تحترم، وتنقد وتناقش، بغض النظر عن أي اعتبارات! ويحضر هنا ملحظٌ آخر مرتبط به وهو (التقبل)، فجميع النصوص طالما أنها تحمل فكرة واضحة فهي مقبولة فكرةً، ومن ثم قابلة للنقد، والمناقشة، وتمنح ذلك الاحترام وتلك الموضوعية بسخاء، مهما كانت الفكرة، فلا يلحظ أي نبرة استهجان أو تعصب، أو انفعال تجاه أي فكرة أو مذهب قد تثير حفيظة ناقد آخر، (وقد تثير حفيظتنا-نحن الطالبات-، ونحن نترجم بعض النصوص التي ستوضع على طاولة النقد ونتصور بعض ردود الأفعال تجاهها!)، لنُفْجأ بنقد مذهل وموضوعية مدهشة، واحترام شديد لأي طرح أو فكرة. والتقبل في هذا السياق وفي غيره لا يعني الموافقة دائمًا، لكنه يعني في شخصية أستاذنا شيئًا يمكن أن أسميه (التعايش السلمي) مع مختلف العقول والأفكار! نعم، وصل إلى مرحلة تُشْعِر كلَّ من يستمع إلى محاضراته وتحليلاته ونقده أنه عاش في جميع العقول، وتعايش معها إلى هذا الحد من التقبل والقدرة على التعامل مع أي نص مهما كانت الفكرةُ غريبةً أو غيرَ مألوفة، ومهما كان الكاتبُ ومذهبُه. هو باختصار (مدرسة) في الموضوعية، والتجرد في النقد، والقدرة على محاورة جميع العقول بمختلف أطروحاتها ومنطلقاتها.
- وأما على صعيد التعاملي/الخُلُقي: فأول ما يلفت -على غزارة العلم، وعظيم القدر والمكانة-، التواضع الجم، وهو غيرُ التواضع المطلق، هو نوعٌ أسميه (تواضعَ العمالقة)، تلمسُه في كل شيء؛ في تعاملاته مع جميع الطلبة على حد سواء؛ لأشخاصِهم، ولجهودِهم وما يقدِّمون. والتواضع في الطرح، والسؤال والجواب، بل والاقتراح والاعتراض، وكذلك التواضع في إبداء الرأي والتصور الشخصي مهما بلغت قوة رأيه ووجاهته؛ بصيغٍ تتيح المجال واسعًا للرأي الآخر، وتلك سجية وسماحة وأريحية لا يملكها إلا الواثقون حقًا، الممتلئون ثقةً وعلمًا.
ومن مشاهد هذا التواضع- في قاعة الدرس-:أنه لم يمارس على الطلبة في المقرر الذي شرفنا بتلقيه على يده (دراسات في الأدب العربي بلغة أجنبية)- وهو يستشعر صعوبة هذا المقرر بالنسبة لنا وضعف اللغة وارتباكنا الشديد وارتباك الألفاظ- إلا (الرقي)، والتغافل عن بعض ما يقع، مع الطمأنة الدائمة وتبسيط الأمر، الذي أزال كثيرًا من رهبة هذا المقرر، بل وقد يخفق الطالب-في اختباره- في فهم المطلوب، من سؤال ما شُرِح كثيرًا والإجابة الصحيحة عنه، فيبادر إلى الطمأنة، وأن المقصود من هذا السؤال التدريب لا أكثر، فلا لوم ولا تحدٍّ لقدرات الطالب طالما أنه لمس الجدَّ والحرص. وأما أعمال الطلبة وأبحاثهم فمقدّرة، والمراجعة ممكنة، والفرص متاحة إلى آخر مدى، وهو يقدَّر العمل مهما اعتراه الخلل، ومهما بدا ضئيلاً، طالما أن الجهد قد استُفرِغ فيه.
وعلى الرغم من إجادته الإنجليزية -لغةً ثانية- إلا أنه لا يتحدث بها كثيرًا-رغم التمكُّن- أمام طلبة في مرحلة الدكتوراه؛ يتملَّكهم الحرج من ضعفهم فيها، إلا بمقدار (يكفي من السِّوار ما أحاط بالمعصم)، كانت وسيلةً، أحسن توظيفها في الوصول إلى غاياته من توسيع البحث والاطلاع والمقارنة، لا أكثر.
وكان آخر مشهد من مشاهد التواضع التي ختم بها ذلك الفصل: أنني تأخرت - لظروف غلبتني- في تسليم مشروع نهاية الفصل، فاستعنت بزميلة تقيم في الرياض، لتتسلَّم أعمالي ورقيًا وتقوم بتوصيلها إلى مكتبه بشكل عاجل، ما حمّلها همًّا ومسؤولية كبيرة، وكان قد حدد مكان الاستلام بدقة، ليكون في مكتبه مباشرةً، فحملت هذه الزميلة هم الوصول إليه قبل انتهاء آخر لحظة في ذلك اليوم، وصعّب المهمة أن السائق الذي اعتمدت عليه لا يجيد العربية، وتملكنا القلق من عدم قدرته على الاهتداء، لتفاجأني في أقل من ساعة- وهي تخبرني بفرحٍ شديد وانجلاءِ غمّ- أنه خرج بنفسه إلى السائق لكي يستلم العمل منه مباشرة خارج مباني الجامعة! وكان المفترض أن يتكلف السائق الوصول إليه، ولا يهمه ألا يصل، وقد تأخرت! وهذا التصرف في (فقه الأخلاق) لا يصدر إلا من عمالقة، أنساهم التواضع ما يجبُ لهم.
كانت هذه ملاحظات سريعة تركها فصل دراسي واحد، ولو أتيح لي التتلمذ مدة أطول لربما سطرت ما يليق بهذه القامة، التي أعلم أنني لست أهلاً للحديث عنها، لكنها مجرد انطباعات سُجِّلت مما يدور بيننا في أحاديث الطلبة.
وأختم هذا الحديث المتواضع بقولي: لم يتقاعد من ترك أثرًا طيبًا، يحملهُ تلامذتُه من بعده.
** **
رفعة العَمري - محاضرة بجامعة طيبة - مبتعثة بجامعة الملك سعود