استقبال الفرح والكآبة
مضى على ركنه في أرفف المكتبات الفرنسية نصف قرن بما حواه هذا النصف من تداولات وردود وأبحاث ونقد، وحط رحاله قريباً في المكتبات العربية عن دار صفحة سبعة لنشر
كتاب «نيتشه والحلقة المفرغة» لبيير كلوسوفسكي الذي ولد بعد وفاة نيتشه بخمسة أعوام فقط، أي أنه عاش الطفرة الثقافية الأولى لآراء نيتشه وأفكاره الفلسفية، فقد حاول في كتابه نبش الأقبية النتشوية بكل انبعاثاتها الفلسفية تجاه الكون والحياة والنفس، إلى غير ذلك، فيما أمد من بعده أمثال فوكو ودولوز بلمعات فلسفية، وقد أتت الترجمة في 360 صفحة، بينما كان الأصل الفرنسي في 384 صفحة.
لا أعلم هل أنا الوحيد الذي استقبل الكتاب بفرح محترق تتصاعد منه أبخرت الحزن..!
لا شك أن مصدر السعادة كون هذه القنية تترجم إلى لغتي الأم لأشعر بحرارة الأفكار ومدى تخلقها في مناخاتنا الثقافية، وكيف تغادرنا هذه الموجة الفكرية التي غطت ارتداداتها أوروبا بله العالم بأكمله، لهذا الفيلسوف الذي تعمق في مجاهيل العقل حتى فقده -أصيب بالجنون 1889-إلى غير ذلك من مبررات السعادة التي أمتلك حقوقها كقارئ عربي يحتضن كتاباً عابراً
المهم ذهبت السكرة وأتت الفكرة، وبدأت التساؤلات والخطرات تنثال تباعاً، لماذا تأخر نقل الكتاب إلى الضاد عقوداً بحجم قبضة الكف الواحدة.. ؟!
وينسلخ من هذا السؤال تساؤلات أخرى، أين سأقف في سلم التشعبات الفلسفية، التي ما برحت المطابع تلوك بها أفكار نيتشه؟!
هل أنا بصدد هضم أطروحة أثبتت السنون رسوخ أقدامها..؟!
أم بددتها طواحين الفلاسفة لتصهرها في أفكار أخرى تكون أكثر مواءمة للمشهد الآني، فنالت بذلك حظاً من الاستقرار
ثم تساءلت، أنى لقارئ الفلسفة أن ينشد الاستقرار وهو ما يعني الجمود بعينه، والجمود الثقافي هو موت الحواضن الفكرية!
ثم «رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي»
لماذا يحجم المترجمون عن دهاليز الفلسفة -و بالمناسبة فدهاليزها حتى في المكتبات هي الأكثر كآبة لندرة المترددين هناك- بينما الإقدام على «النقل» الروائي هو الأكثر اقتحاما.. ؟!
معاذ الله أن تكون كل تلك المحاجر، عفواً المعاجم التي تقبع في الأرفف العليا من مكتباتنا الشخصية والتجارية، خلو من مفردات تبل الفكر الفلسفي.. ؟! ليتذوقها كل قارئ عربي لا يأكل إلا بمنقار ثقافي واحد، وحتى لا يفقد الأصل دلالاته اللغوية وأنساقه الفلسفية
في كون الأستاذ صلاح بن عياد الذي تصدى لهذا الكتاب، شاعر ومترجم، رسالة مطمئنة ليقيني بأن مفردات اللغة السائلة تقبع في وجدان الشعراء وأرباب الأدب، والطمأنينة الكبرى انبثقت عن وزارة الثقافة، إذ تبنت هيئة الأدب والنشر والترجمة، وفي تقديم مفردة الأدب شعور بمسيس الحاجة لتوفر الملاءة اللغوية لدى المترجم حتى يسهم في مد أدبنا ومفرداتنا بما يشبه المسيلات منعا لحدوث جلطة ثقافية..!
** **
- عبدالرحمن موالف