ستتوغّل في حمّى الأيّام، وسترهقك ليال الشتاء الطويلة، تسير بعبث دون وجهة محدّدة، وتخمّن أن ستصل يوماً إلى ركام الأمنيات! كلّ الطرق متشابهة، وكلّ الوجوه مشدودة إلى الأمام، المطر يهمي بشدّة والبرد القارس يفتك بعظامك النتئة، تحثّ الخطى، تسرع علّ دفئاً يسكت ارتعاشاتك، منذ أن هبطت الطائرة يوم أمس في صقيع الأيّام شرعت في البحث عن دفء تقرّ به نفْسك ولا تصل إليه..
ستشوق دمك الأشياء الصغيرة التي خلّفتها هناك، وستشوقك امرأة حالمة دافئة كنت تنغمس في حضنها.
كل شارع ضيّق يلفظك إلى آخر موحش كئيب، تتفلّت من عينيك آخر لحظات دفء ادّخرتها من حضن امرأة دافئ، تسير طويلاً باحثاً عن لحظة دفء، تسير كثيراً حيث تبتئس الأمكنة بزوارها، تقابلك نظراتهم المتسائلة وتكاد تسمع فحيح صدورهم.
تكلّ من جوب الشوارع المرتجفة صقيعاً، تدلف إلى حانة صاخبة، تتلفّت في الوجوه الذئبية، تجلس في ركن قصي خائفاً، تدلق كأساً حارقاً وآخر إلى أن يدبّ الدفء في عظامك، تتساوى في عينيك الأشياء، ويخفت صدى الأيّام الجائعة داخلك، في لحظة خاطفة تسقط أمام عينيك صورة المرأة وهي تتشبّث بك وترجوك ألّا تغادر، كانت عيناها تفيض رجاءً، لكنّ الغربان السود حوّمتْ فوق نهارك الأخير هناك، وقررت المغادرة.
تتقاذفك لحظات ندم ثمّ يندلع شوقك فتُسكتهما بآمال ذابلة لا تكاد تسند صورة نقيّة في خيالك.
تخرج من الحانة، تهيّم في أزقة ممطرة تناوبك رعشات وتنبعث رائحة عفنة من فمك، في الطرقات تبحث في وجوه السابلة عن ودٍّ ترتجيه كي تصدّ به عاصفة ندم تتفاقم داخلك.
سيأكلك جسدك وستدخل بيتاً أسود، سيتشمّمك كلب أسود مرتاب، امرأة مرهقة كليلة النظرات متعبة، امرأة شاحبة بلا أثداء وبلا ملامح، ستحضنك بتقزّز، في الشارع الضيّق ستدلق مافي جوفك وتمضي هارباً.
ستعود إلى الحانة وتعلّ من الشراب حتى تثمل، يسندك الرجل إلى الباب الخارجي ويقذف بك، تنزلق إلى فسحة صغيرة تلوذ بها من صقيع الشتاء، تكمن طوال الليل إلى أن تسمع خطوات السابلة فتصحو، وتبحث بين خطوات الأقدام عن لحظة لم يطأها أحد، لحظة دافئة تسكت صرير عظامك، وفي كلّ فاصلة وقت تترصّدك لحظات الندم ونظرات المرأة الدافئة الراجية أن تمكث في بيتك.
ليت قلبك التفت إلى الخلف وأنت تغادر سواحل طفولتك وشبابك، ليتك أبقيت شيئاً من نفْسك هناك قبل أن تلتهمك أزقة التشرّد والآمال الذابلة، ليتك قفزت من حلمك الأظلم حين تموّج بين عينيك في منتصف تلك الليلة التي لم يُسْفِرْ لها صباح إذ حملت حقيبة سفرك وصدرك يلجّ بأمنيات عجاف.
ستنهزم أمام زهور ذكرياتك، أمام أيّامك الخوالي، أمام رائحة عبق المرأة التي قرّرت يوماً مغادرتها.
تعود إلى غرفتك الضيّقة في السكن الجماعي منهكاً، ضجيج يشق رأسك، تضطجع على سريرك بعد أن أتعبك التجوال العبثي نحو دفء لم يخالطك، غمرك إحساس بتفاهة كلّ شيء، تركّز نظراتك نحو السقف الأبيض، الصقيع يُتلف عظامك ودفء في خيالك لا يجئ.
** **
- عبدالكريم بن محمد النملة