إن ولادة الأجناس الأدبية بعمومها تتطلب شيئاً من الشجاعة، وشيئاً من التقبل؛ لأنه لا يمكن أن تستمرالحياة أبد الدهر بأجناس أدبية محددة دون تجديد، ودون تغيير؛ لأن التغيير سنة الحياة.
وفي العقود الزمنية الأخيرة أثيرت الأقلام النقدية حول ولادة فن أدبي جديد من فنون الأدب، رفضه بعضهم جنساً شعرياً، ورفضه الآخر جنساً نثرياً، ورفضه آخرون وحاولوا إقصاءه عن الأدب برمته، ألا وهو: (قصيدة النثر)، التي تفجرت حوله قراءات، ودراسات، واعتراضات على طبيعته وشكله، من خلال مقارنته مع الأجناس الأدبية التي سبقته، وتمثلها المتلقي في ذهنه، حيث تصدى له كل من له علاقة مباشرة وغير مباشرة بالشعر، حتى تحول هذا التصدي إلى جدل نقدي محتدم، للحد الذي يعجز عن تقبله بعض النقاد والأدباء، ولاسيما قبولها جنساً شعرياً؛ لأن الشعر عند معظمهم هو الشعر الذي لا يمكن أن يخلو من الأوزان الخليلية.
وأول من سك مصطلح (قصيدة النثر) في الأدب العربي هو أدونيس، متأثراً بكتاب (سوزان برنار)، في مقالة له نشرت تحت عنوان: (في قصيدة النثر) في مجلة (شعر) عام 1960م، وقد كان مبدأه فيها أنه «إذا كانت قصيدة الوزن مجبرة على اختيار الأشكال التي تفرضها القاعدة أو التقليد الموروث؛ فإن قصيدة النثر حرة في اختيار الأشكال التي تفرضها تجربة الشاعر، وهي من هذه الناحية تركيب جدلي رحب، وحوار لا نهائي بين هدم الأشكال وبنائها».
إن هذا الجدل النقدي وصل أوجه، مما دفع بعض الشعراء يعبر عن رفضه لقصيدة النثر بقصيدة عمودية، كما فعل ذلك إبراهيم الحميّد في قصيدته التي عنونها بـ:(قصيدة النثر؟!)، يقول فيها:
«من يدعي أدباً يبغي له نسباً
وما له بلسان الضاد من سببِ
يقول أبدعتُ فناً لا نظيرَ له
وليس يحدثُ إلا منتهى العجبِ
بعضُ الطلاسم في الأوراق سطرها
ولا يُفرّق بين الصدق والكذبِ
قصيدة النثر لا تلقى لها نسباً
إني بحثتُ فلم أعثرْ على نسبِ
تمائمٌ من غريب القول منكرة
إني أرى جُلّها من قلة الأدبِ
الضاد يا قوم والرحمن يحفظها
ممن يكيدُ لها بالشر والعطبِ
فأبحر الشعر لا نرضى بها بدلاً
فيها البلابل إذ تشجيك بالطربِ».
وكتب أيضاً الشاعر عبد الله حلاق عنها في قصيدة عنونها بـ(الشعر الجديد)، قال فيها:
«أردتُ اليوم أن أهذي
ألفاظ بلا معنى
وأن أختار أسلوباً
ينافي الذوق والفنا
فدلوني على نمطٍ
بلا معنى ولا مبنى
وقالوا دونك التجديد
لا تختر له وزنا
وسمِ الفأرَ طاووساً
وقل طاووسنا غنى
وقل ما شئت من لفظ
فرب الشعر قد جُنّا».
إن ما دعا هذين الشاعرين للتعبير بنص عن رفضه لها أمر مقصور على رفض طبيعة شكلها الجديد، واختراقها للقيم التقليدية، والقوالب الشعرية التي ألفها، دون أن يتفكر أنها فن إبداعي جميل، يتطلب أن نرسم قواعده وخصائصه وقالبه الأجناسي الملائم له، دون أن نقصيه خارج دائرة الأدب؛ لأنه فن -شئنا أم أبينا- فرض نفسه على الساحة الأدبية، وصار موجوداً، وعلى الناقد الحصيف أن يميز جيده من رديئه حتى لا يكون فن من لا فن له، «أليس اعتباطاً أن يسمي شاعرٌ يكتب عادة أشعاراً موزونة، كل قصيدة لا يتمكن من ضبطها عروضياً، قصيدة نثرا! ... وكأن الشعر في نظره ليس سوى تفعيلات قُرِّرت سلفاً»، وكأن كل نص غير موزون ينسب لقصيدة النثر، وهذا انتقاص حقيقي من قيمة النثر، واعتراف ضمني بتدني مرتبة النثر الذي لن يرتفع إلا إذا ألحقناه بالشعر؛ فقد يكون أمامنا نص نثري عالي المستوى؛ لكن بعضهم يشعر بعقدة النقص تجاهه إن لم يكن شعراً.
وقد عبّر بعضهم في محاولة جادة لإثبات شعرية قصيدة النثر، وإثبات وجودها في نص نثري ألقاه مناشدة على لسانها، في مؤتمر أقيم في الجامعة الأمريكية في بيروت، هو أنسي الحاج، الذي يقول فيه:
«أنا قصيدة النثر، مخلوق دخيل أراد أن ينتزع وجوده بالقوة؛ لألف سبب شكلي ومعنوي، أعترف بالوزن لكنه لا يعترف بي، ... متمردة وصارمة، حرة ومسيجة، متنوعة حتى التناقض، إيقاعية وفالتة، متوترة ومنفرجة، غنائية وناشفة، وقائلة مالا تقوله الأوزان، ... ظننتُ أن مسألة البحث في أمري حسمت، وها هي تعود إلى التداول. كنتُ واهمة وكنتم على حق، فأنا المخلوق الدخيل سأظل، مهما أجلستموني بين أنواعكم الأدبية، مخلوقاً دخيلاً، أو في أحسن الأحوال مخلوقاً مقبولاً على مضض. يبدو أن هذا هو جزء من هويتي، بل من قدري؛ لأنني بنت التمرد، لا التمرد على الأوزان فحسب، بل التمرد أيضاً على أوزان القضاء والقدر، فأنا قصيدة النثر الدخيلة، عشبة هوجاء لم يزرعها بستاني القصر، ولا ربة المنزل، بل طلعتْ من بركان أسود هو رحم الرفض، وأنا العشبة الهوجاء مهما اقتلعوني سأعود أنبت، ومهما شذبوني لن أدخل حديقة الطاعة، وسأظل عطاء ورفضاً، جليسة أنيسة وضيفاً ثقيلاً؛ لأني ولدت من التمرد، ... وهل كثير، بين هذه المجرّات المنتظمة بثباتها ودقتها ورتابتها وصلادتها، مجرات النظام والتشابه والتراتبية العسكرية، هل كثير أن ينفرد كوكب صغير بالانحراف عن المسارات، ويغرد خارج السرب، ولا يعبأ بزمجرة الحكام، واستنكار الآباء، ولعنات الدهور؟».
ونص آخر كتبته أحلام المصري مناشدة على لسان قصيدة النثر، تقول فيه:
«أنا قصيدة نثر
لا قافية تضمني..
لا بحر يحتوي جنوني!
حرة أنا -كفراشة- تختار انتحارها،
ولا تندم!
هذا الضوء يغريني..
قليلاً، فقط.. قليلاً!
ثم،
دون اعتناقه أعود!
*
أنا القصيدة التي لا يرضى عنها الشعراء!
لا يعتنق معناها أهل التقاليد..
أنا الغريبة في مدينة التصفيق!
ترنو إلي البلاغةُ..
تمسح عن جبيني (شَدةَ) الوجع..
تمنحني بعضَ (السكون)!
*
اضطراب المعنى لا يزعجني..
كما العصافير.. أغرد،
لا أنتظر الإطراء!
برية الخطوة والحرف..
تلك الأقفاص لا تغريني!
لا تحتويني..
أزهدها.. وهي تشتهيني!
*
أنا قصيدة نثر!
تحلق في سماء المعنى..».
لا نستطيع أن ننكر الشعرية العالية التي نجدها في هذين النصين، ولذا لابد لقصيدة النثر من لغة شعرية عمادها الصورة، والعاطفة، والانفعال، والإيقاع، وبعيداً عن التبسيط الشديد إلى حد الابتذال، كذلك لابد لها من التكثيف الشديد الذي لا يعني القصر؛ إنما يعني الحفر في الأعماق، والبعد عن الشرح والتكرار، والإسهاب، والتفصيل.
فالمبدع يجب أن يتفقد نصه، ويعيد النظر فيه، فيسقط رديئه، ويبقي جيده، ويختار العبارات المناسبة، ويجنح لاستعمال المجاز والاستعارة، وضروب التشبيه، وغيرها من الأنماط البلاغية، وهذا ما قام به قلة ممن كتبوا قصيدة النثر.
إن قصيدة النثر فن أدبي تشكل تاريخياً عبر تراكم سلسلة من النصوص ذات السمات المشتركة، التي هي تحول من أجناس أدبية عرفتها العربية قديماً وحديثاً، وفرضها التطور الذي شهده عصرنا الحالي في مجالات الحياة المختلفة؛ فالتطور سنة الحياة، ولا شيء يولد من فراغ، حتى الأجناس الأدبية لا تولد من العدم، وليس من حق أي كان رفض جنس أدبي ما؛ فنحن لا نستطيع فرض أجناس معينة على المبدعين ليكتبوها، إنما نناشدهم الجودة فيما يكتبون، وهذا ما يجب أن يسلط الضوء حوله، وهي مهمة الناقد أثناء تلقيه للنص الأدبي.
ولذا نأمل أن ما تمر به قصيدة النثر هو كأي مرحلة طبيعية يمر بها معظم الأجناس الأدبية المختلفة؛ إذ «لم يتمكن جنس أدبي من حل معضلته الذوقية مع المتلقي دون عوائق، ودون أن يستنبت في جاهزيته الذاكرة الجمعية حالة من التوجس، أو الرفض الابتدائي؛ فالإبداع عموماً، والنصوص الشعرية بصورة خاصة، حالة أو فرصة للتأكيد على الاختلاف، واختراق منظومات الثبات بحثاً عن التطور»؛ فكل جنس يخضع لعملية قلب، أو تغيير، أو رفض، أو تحول، وما إليها من المراحل الزمنية التي يقطعها الجنس الأدبي للوصول إلى القالب الملائم لطبيعته ومناخه الأدبي، والقدرة على تحديد أجناسيتها ضمن أجناس الأدب.
** **
- د. هدى محمد المطلق