تقطع الوادي، ثم تتبعُ الطرق المتعرجة بين شجر الآراك، حتى تصل لتلك البلاد، في أقصاها من جهة الجبل بيت بناؤه من طين، يتكون من ثلاث غرف وحوش صغير قُسم بجدار مائل قسمٌ للرجال وآخر للنساء، شبابيكه من حديد ذات درفتين تفتح للداخل، أبوابه من خشب نُصب بالطول بلا طلاء، الأرض دكت جيداً بالطين وأنواع مختلفة من التربة يستخدمها أصحاب القرى بديلة للمواد الحديثة، هناك في طرف حوش الرجال وبين جذعي شجرتين ترى معلاق الذبائح وبجانبه غرفة صغيرة يوضع ويحفظ فيها القدور والصحون الكبار ومنازع اللحم والسكاكين ومجامر الطيب وطاسات الحليب، وكل ما يخص إكرام الضيوف والطراقي، بابها دائماً مؤارب تحسباً للضيف، تخرج من باب قسم الرجال، فيهب عليك نسيم البلاد، سورها شبك مُد بين أعمدة من شجر الأثل، في طرفها الأيمن خزان الماء المبني فوق الأرض بارتفاع مترين، عينك لا تخطىء النخيل المنتشر بطول البلاد، شامخ كأهلها، في الطرف الأيسر منها ثلاث شجرات كرم، ارتفعت فوق الأعواد والألواح، وتدلت منها العناقيد، تنتظر الزنابيل، وأيدي الحاصد، تُميل رأسك يمنة ويسرة من بين جذوع النخيل حتى ترى شجرة السدر، هل من أحد يجلس في ظلها، السدرة شيخة البلاد، وأم الأشجار، ظلها وارف، وهواؤها عليل، وكل ما يكون تحتها له طعم مختلف.
تحت السدرة، تتم خطوبة الحبيبين، وينتظر رجوع الغائب، ويُحل النشب بين الرجال، ويتصالح المتخاصمون، تحت السدرة، يقضى دين المعسر، وتنقل أخبار الأمطار، وأسواق بيع وشراء المواشي، ضحى كل يوم تتم تحتها صفقات البيع، هذا يبيع مئة من الغنم والسداد على سنتين، وذاك يبيع ناقة خلفة ببكرتها مقابل ( جمس بيكب أحمر ) ومبلغ يتقاضاه بعد حول كامل، والآخر يعرض بندقه ( النيمس البلجيكية ) للبيع، تحت السدرة تحكى الحكايات، والمرويات ، يُعلم الأبناء أمجاد أجدادهم ، وأخبار مغازيهم على القبائل المجاورة لهم ، تُنشد القصائد في المديح والهجاء وفي الحث على مكارم الأخلاق.
تحت السدرة تلقى الطُرف وتتبادل الأحاجي، وفي عصرياتها يختبر الأبناء ويُتخرص فيهم، فهذا شجاع وهذا فيه فطنة وهذا سريع الحفظ وهذا حجيج في النقاش ، تُلقى لهم الوصايا بصوت أجش وقلب عطوف ونبرة صادقة، تتبدل الأيام وتمضي السنوات والسدرة شامخة لم تفكر في حت ورقها، هي هي، في الربيع تسقط علينا ثمرة النبق، وفي الصيف تمد ظلالها، وفي الشتاء تكون ذراً لنا ومكان شبةَ نار الدفء، السدرة ليست شجرة، هي تاريخ عريض بعرض الزمن، وصفحات من الذكريات والحكايات ..
اليوم وبعد كل هذه السنوات ..
أُنزل المعلاق ونضب البئر وتهدم المنزل وهزم الفلاح وتهشمت الكرمة وقطعت السدرة ..
اليوم مات خالي ..
** **
- مهدي البقمي