رواية «حرب الفقراء» من تأليف الروائي الفرنسي الشهير إريك فويار، صدرت عن دار أكتسود في حوالي 80 صفحة عام 2019. تتناول رواية «حرب الفقراء» طبقية المجتمع التي امتدت من ألمانيا إلى فرنسا في القرن السادس عشر الميلادي وأدت إلى نشوب ما يمكن أن نطلق عليه صراع الطبقات الاجتماعية. وعلى الرغم من عدد صفحات الرواية القليلة إلا أن كلماتها صادقة وتحمل بين طياتها رسائل رمزية مؤلمة وإسقاطات تاريخية على الحاضر الأوروبي بكل ما فيه من سلبيات لا تخطئها عين كاتب حصيف كاريك فويار.
إن استقراء التاريخ ومحاولة الاستفادة من تجاربه من خلال الأعمال الروائية يكتنفه كثير من الصعوبة خاصة إذا تعلّق الأمر بالصراع الطبقي ومحاولة الروائيين نقل التجربة التاريخية بطريقة أدبية تستوعب التجارب التاريخية وتربط الحاضر بالماضي بعيدا عن تحكم الأهواء.
من هنا نستطيع القول بأن القارئ يتمتع بحرية مطلقة في أن يقرأ ما يشاء لإدخال السُّرور على نفسه، لكنه لا يستطيع الاستمتاع بقراءة روايتنا لهذا الغرض فقط، ذلك أن مؤلِّف هذه الرواية سعى إلى استرجاع الماضي ليحكي لنا وقائع تاريخية حقيقية في قالب قصصيّ يتآزر فيه ذلك الماضي البعيد مع حاضرنا مكانياً وزمانياً بحيث يشكّل هذان العاملان المتداخلان أحد أهم سمات السرد القصصي عند اريك فويار والذي يتميّز بربط الوقائع بالمكان والأحداث بالزمان.
في هذا العمل الروائي، يستعرض اريك فويار الوضع الاقتصادي المتردي للفلاحين في جنوب ألمانيا وسويسرا وفرنسا في القرن السادس عشر وانتشار المجاعات بين الفقراء الذي يعيشون في فقر مدقِع الذي ومواجهة النظام الإقطاعي وطبقة النبلاء لتمرد هؤلاء الفقراء بأساليب مختلفة تراوحت بين السجن والقتل.
رواية حرب الفقراء تتناول ثورة الفلاحين وصغار التجار والعمال ضد الإصلاح البروتستانتي الذي فرض ضرائب كبيرة عليهم وأثقلت كاهل العديد منهم، حيث بدأت الثورة بقيادة توما مونتسر الذي قضى نحبه قتيلا وعمره خمسة وثلاثون عاما. تتوالى الانتفاضات واحدة تلو أخرى على مدار سنوات وتتابع الأحداث تحت زعامات دينية متعددة إلى أن تصل الرواية إلى نهايتها غير المتوقعة بإعدام أحد أهم رموزها الدينية وانتهاء موجات انتفاضة الفلاحين.
في هذه الرحلة السردية يغوص كاتبنا في أعماق الماضي ليحدثنا عن ثنائية الفقر ونقيضِه التي ظلت محل دراسات مستفيضة شغلت بال الباحثين والمفكرين لأزمنة طويلة، ذلك أن هناك مِن الناس مَن إِذا افتقر لا يَسأَل الناس رغم الجوع والحاجة التي يعاني منها هو ومن يعول ومنهم من يؤدي به الفقر إلى الارتطام بالمصاعب. يتعرّض كاتبنا لهذا النموذج الثاني من البَشر الذي لم يُثنه خوفه من الفقر المدقِع عن عزمه الارتطام بحائط المَنَعَة الذي أحاط به الأغنياء أنفسهم.
الحديث عن المجتمعات الطبقية يجرّ الكاتب الفرنسي للحديث عن المصالح المتعاكسة التي زلزلت جدار الصمت الذي فرضه النبلاء في القرن السادس عشر الميلادي على الفقراء. هل ولَّى زمان ذلك الصمت؟ هل تم كسر جداره؟ هل سيقف الفقراء مختبئين خلف هذا الجدار وهم صامتون؟ وهل الوقوف خلف هذا الجدار في صمت يجعل من ضجيج الصمت وقوداً لحرب الفقراء.
في رواية حرب الفقراء، يستعرض الكاتب جذور وأسباب الصراعات الاجتماعية في العصور الوسطى وانعكاسات تلك الصراعات على المجتمعات المعاصرة، حيث يتركز أكثر من 80 % من الثروة في أيدي 1% من الأغنياء. ولأن التاريخ يكرر نفسه، ولأن العالَم الآن يمرّ بمرحلة تحولات وتغيرات حضارية وثقافية، فان اريك فويار يستقي من التاريخ العبر والدروس ويدق ناقوس الخطر ويحذر الجميع من الهُوَّة بعيدة القعر التي يوشك أن يقع فيها كل من تكبَّر وغيبته شهوة المال والجاه والسلطان عن النظر إلى الفقراء بعين الرحمة والرأفة
ختاما: هل يمكن لهذا الماضي الذي يستحضره المؤلِّف أن ينفُذ إلى الحاضر وأن يُطلّ برأسه على المستقبل؟ نترك الإجابة على هذا السؤال لقارئ نموذجي يحاول الكشف عمّا يرمي إليه كاتبنا خاصة وأن مجريات الأحداث في فرنسا التي صاحبت تاريخ نشر هذه الرواية في 2019 ستفتح حتماً شهية القارئ لمعرفة الأسباب التي دعت الفرنسيين منذ بداية 2019 وحتى العام 2021 للخروج مطالبين بما كان يطالب به توما مونتسر ورفاقه في القرن السادس عشر.
** **
- د. أيمن منير