من المسلَّم أنه لا يمكن أن تعيش لغة بمعزل عن الأخرى دون أن تؤثر أو تتأثر، ومن الطبيعي أن تتسرب إلى أي لغة من لغات العالم ألفاظ ليست من معجمها، وهذا يحدث بطريقة عفوية بين اللغات. وقد تسرب إلى معجم العربية – في مختلف عصورها- عدد من هذه الألفاظ واستقرت في معجمها وعوملت كالألفاظ العربية، ونزل القرآن الكريم فعدَّها في حكم العربية-من حيث الاستعمال-؛ فوصف القرآن الكريم بأنه عربي {قرآنًا عربيًا} و{بلسانٍ عربيٍّ مبين}، ولم يحفل بأصولها، فهو كتاب خطاب وتبليغ بلغة مفهومة؛ يفهمها العرب وتكون حجة على من سمعها، لا كتاب لغة، يحقّق في الألفاظ وأصولها، فالمقصود باللسان العربي المبين-كما أفهم-، اللغة التي يتكلمها العرب ويفهمون ألفاظها وأساليبها وتراكيبها، بغض النظر عن أصول بعض الألفاظ المندرجة فيها، والتي أعطاها الاستعمال حكم العربية.
وبالتالي فوجود ألفاظ غير عربية، ظاهرة طبيعية رافقت اللغة في أقوى عصورها، وأقرها القرآن الكريم باستعمال أمثلة منها وكأنها من صميم لغتهم، ووصف القرآن في مجمله بأنه عربي. وهكذا الأمر في واقع اللغة المعاصرة واستعمالاتنا لها، وستظل هذه الظاهرة مرافقة للغة في أي زمان، سواءٌ ما جاء عفوًا، أو دعت الحاجة إليه، فلا بد من تقبُّلها، طبيعةً من طبائع اللغات، ولكن دون إفراط أو تعمُّد مقصود لإدخال ألفاظ لها نظائر كثيرة تغني عنها وتصون اللغة، وتحمي معجمها من هيمنة ألفاظ لغات أخرى لا حاجة إليها، وذوبانها في تلك اللغات، واندثارها فيها.
فتعريب اللفظ الذي تدعو الحاجة إلى تعريبه أمرٌ لا مناص منه حين لا يوجد في اللغة أي مقابل دال عليه، فهو من الضرورات التي تفرضها الحاجة، لكن ما ضرورة تعريب (ترند) -بدلالته الخاصة وفي سياقه الخاص بمنصة X-؟
فالتعريب الذي دار عليه الجدل-فيما لاحظت- يخصه بهذه الدلالة وهذا السياق تحديدًا! ولم ينظر في السياقات الأخرى، كما في سياق عنوان الكتاب الذي شارك في ترجمته د/سعد مصلوح (Trends in linguistics) إذ لا يستساغ فيه هذا اللفظ إطلاقًا، وكما أشار هو إلى ذلك في رأيه في هذا التعريب(). فالتعريب الذي أقره المجمع لا يتناول اللفظ في لغة البحث والدراسة والتأليف والاستعمالات اللغوية عمومًا، ولكن في سياق أقل أهمية هو (سياق منصة (X، أو لم يدرس ملاءمته للسياقات الأخرى إذا كان المقصود -بهذا التعريب- اللفظ في جميع السياقات.
وإذا كان هذا السياق الخاص بمنصة X، هو الذي عليه كل هذا الاختلاف، فالذي أرى -في هذا التعريب الذي فرضه الاستعمال، قبل أن يقره مجمع اللغة لاحقًا-: أنه يمكن قبول هذا اللفظ الذي شاع على نطاق واسع وجرى في الاستعمال (في نطاقه المحدد منصةX): مثل ألفاظ كثيرة مُعرَّبة تسربت وأخذت مكانها في اللغة، من غير حاجة كبيرة تدعو لتعريبها. لكني مع قبوله، لجريانه في الاستعمال، ولكونه مرتبطًا بمنصة ليست عربية في أصلها، إلا أنني لا أقبل حجة المجمع في تعريب اللفظ؛ لعدم وجود كلمة عربية واحدة تدل عليه!!
وهنا بعض التساؤلات التي أثارها قرار المجمع بهذا التعريب: ما الآلية التي تتبعها المجامع اللغوية في البحث عن المرادف؟ وهل طريقة البحث بشرية أم آلية؟ وهل استُقرئت المعاجم كاملة وكيف؟ أو على الأقل واحدًا منها كتاج العروس؟ وهل التي استُقْرِئت -كلها أو بعضُها- استُقْرِئت كلمةًكلمة؟
وهل يشترط في المرادف (المقابل العربي) التطابق التام في الدلالة؟ فعلى اللفظ أن يحمل دلالة كلمة (Trend) بالضبط، وكأن الباحث يفترض أن العرب عرفوا هذه المنصة واستعملوا هذه الكلمة بهذه الدلالة تمامًا؟ فيبحث عنها بلفظها ودلالتها كاملة في المعجم؟
لفظ (Trend)– في سياقه الخاص في منصة X: يعني الشيوع والانتشار والتصدر، ولا يشترط في اللفظ المقابل في العربية -فيما أرى- أن يحمل جميع هذه الدلالات، فالشيوع والانتشار، أو الشيوع والتجمع حول الشيء، يقتضي (دلالة اقتضاء) التصدر ولو بصورة مؤقتة، وهذا ما يكون فيما يسمى بـ(الترند)، فهو يشيع وينتشر أولاً، ثم يتصدر، فالتصدر دلالة تابعة، ليتراجع بعد ذلك، ويرتفع غيره. فالدلالة الأساسية التي ينبغي التركيز عليها في بحث المقابل: الشيوع والانتشار. وما أكثر الألفاظ المؤدية لهذه الدلالة! وقد ذكر المعارضون أمثلة عديدة لها. وإذا أردنا دلالة (التصدر) أو الدلالة التابعة، فهناك أيضًا ألفاظ يمكن أن تؤدي معناه وما يتضمنه من الشيوع والانتشار.
أعلم أن تلك الألفاظ البديلة التي أدلى بها المعارضون لم ترقَ إلى كلمة (ترند) التي مازالت محتفظة بوهجها الخاص – في مقابل تلك المرادفات التي تبدو أضعف وأقل وهجًا- لكون اللفظة الإنجليزية مازالت جديدة لم تبتذل، كالمرادفات العربية المقترحة، فهي لا ترقى– تذوقًا-إلى لفظة (ترند)؛ لكثرة دورانها على الألسنة، ما أفقدها مثل ذلك الوهج.
وهنا تأتي الجهود المخلصة في البحث عن مقابل لم يبتذله الاستعمال ، ليكون أدعى للقبول، ويمكن أن أذكر هنا بعض الأمثلة من تصفح سريع-وبصيغ من ذات الأمثلة التي ذكروها-:
- شَيْعُوعَة: في التهذيب: «شاع الشيءُ يشِيع مَشَاعاً وشَيْعُوعةً فَهُوَ شَائِعٌ: إِذا ظهرَ وتفرَّق»(). فهو في الدلالة كـ(شائع) ومرادفاته الأخرى (من متداول ورائج)، لكنّ الاستعمال لم يبتذله. ومثله لفظ (سَيْرورة).
- شِيَاع: الشِّياعُ: مِزمارُ الرَّاعي، سُمِّيَ بِهِ لأَنَّه يَصيحُ بهَا على الإبِلِ فتَجتَمِعُ. والشِّياعُ: الدُّعاةُ، جَمعُ داعٍ، وأَشاعَ بالإبلِ: أَهابَ بها، أَي صاحَ بها، ودعاها إِذا استأخرَ بعضُها(). وهكذا المتداعُون فيما يسمى بـ(ترند).
- دَالَة/أو دَوَل/أو دُوْلَة: في التاج: الدَّالَةُ: الشُّهْرةُ، جمع: دالٌ. وَقد دالَ يَدُولُ دَوْلاً ودالَةً: صارَ شُهْرَةً. والدَّوَلُ -بِالتَّحْرِيكِ-: النَّبْلُ المُتَداوَلُ(). والدُّوْلَة اسْم الشَّيْء الَّذِي يُتَدَاول، يُقَال: صَار الفيءُ دُولَةً بينَهم، يتَداوَلُونه().
- صَائِت/أو صَيِّت: «صَوَّتَ فلانٌ بفلان تصويتًا أي دَعاه. وصاتَ يصُوتُ صوتاً فهو صائِتٌ بمعنى صائح»(). وصَيِّتٌ، أَي: شديدُ الصَّوتِ، وَفِي الحَدِيث: (كَانَ العَبّاسُ رَجُلاً صَيِّتاً) ، أَي: شديدَ الصَّوْتِ عالِيَهُ، يُقَال: هُوَ صَيِّتٌ وصائتٌ. والصِّيتُ: المِطْرَقَةُ نَفْسُها().
هي فقط أمثلة للتقريب من نظرة سريعة، وإن اختلفت عليها الأذواق، فبإمكان الباحث المتأني أن يأتي بما هو أدل وأوفق.
وغير هذا السؤال، تساؤلٌ آخر: هل يشترط في دلالة اللفظ العربي المقابل أن تكون مباشرة؟ وحقيقية؟ ألا يمكن الاستفادة من طرق التوسع المجازي المختلفة بالاشتقاق له من لفظ عربي بطريق المجاز؟ أو بحمله على دلالته مجازًا؟
كما في بعض الأمثلة السابقة، وفي لفظ مثل (وثبة): من (وثبَ) بمعنى قفز، ألا يمكن أن نشبه به شيئًا ذاع وانتشر وتصدر؟ ألا يصح أن يوصف الترند-إذا شاع وتصدر- بالوثبة؟ كأنه وثب وارتفع إلى المقدمة؟ وغيره من الاقتراحات المشابهة.
لن تقدم اللغة اللفظ جاهزًا- في كل مرة يبحث عن مقابل- لكنها يمكن أن تقدم أصولاً كثيرة يمكن الاشتقاق منها على الحقيقة أو بالحمل عليها، عن طريق المجاز أو التشبيه. وما أغناها إذا وسع النظر من هذا الباب!
وأخيرا.. نعلم أن سُلْطة (الاستعمال) أقوى من سُلْطة (المجمّع) مهما بذل من جهود، فما الطرق التي سترافق اللفظ العربي المرادف إذا وُجِد، واتفقت عليه آراء اللغويين، حتى يدخل حيِّزَ الاستعمال؟
** **
رفعة العمري - محاضرة بجامعة طيبة