تعتبر رواية المرقش (حالت قرى نجران دون لقائها) للكاتب السعودي ابن عايض صالح من أمثلة الرواية العربية التي تتمحور بنيتها السردية حول الزمان والمكان انفتاحاً على نوسطالجيا التراث العربي القديم والتي تمثّل إسقاطاً عميقاً لصدام الحضارة العربية المعاصرة وما حولها من حضارات. هذا المقال سوف يسلط الضوء على رواية المرقش كتجربة سردية تمثّل إضافة حقيقية لمكتبة الرواية العربية الحديثة، حيث تم تفكيك النص كما يلي:
العنوان
يعتبر العنوان عتبة مهمة للدخول إلى النص والانخراط في سياقاته المتشعبة، كما أنه يجعل القارئ يطرح بعض الاستفهامات ويختزن في ذهنه تنبؤات قبل الشروع في قراءة النص واستكشاف مجاهله.
بالرجوع إلى البنية السطحية للعنوان، نجد أن الكاتب بدأ العنوان باسم علم (المرقّش) وهو المتغير الأول إلا أن الاسم قد يبعث في نفس القارئ الحنين إلى التراث العربي القديم المتمثل في شخص المرقش كشاعر جاهلي والحنين هنا قد ينبع من الزمان والمكان الذي دارت فيه أحداث ترتبط بطريقة أو بأخرى بشخصية المرقش. والزمان والمكان هما الحقلان الكاشفان عن الحدود المضمرة للنص.
الجزء الثاني من العنوان (حالت قرى نجران دون لقائها)، حيث صرّح الكاتب باسم المكان (قرى نجران) يوحي بالحنين إلى المكان وما ومن فيه كما يتم تقطير العنوان جملة وتفصيلا في ثنايا الرواية على نحو متكرر وهنا يمكن للقارئ أن يتنسم عبق نوسطالجيا التراث العربي القديم المتجلية في البعد المكاني والزماني للقصة.
الكلمة الأخيرة في بنية العنوان (لقائها) تحمل تلميحاً ضمنياً عن إنسان المنطقة ويمكن أن تفهم كرمزية للشق الروحي للحضارة العربية في سياق المقارنة بماضيها وحاضرها والفراق واللقاء كمعاني إنسانية عميقة تؤثر في حياتنا بصورة جلية.
المتن السردي
من خلال قراءة النص يتضح جلياً أن النص ينفتح على آفاق متعددة يربط بينها الكاتب ضمنياً بما يحقق الوحدة العضوية للنص الروائي، حيث تدور الأحداث في منطقة نجران أيام الجاهلية بملامحها البدوية المعرقة في القدم بشعرائها الجهابذة وحروبها وتقاليدها، وهنا استدعى الكاتب مجموعة من الشواهد الشعرية كرمزية عرفت بها المجتمعات العربية العهيدة.
وفي إطار ربط الحياة العربية القديمة بما حولها من الأمم غير العربية ساق الكاتب بعض النماذج المتعلقة بحياة مجموعة من الحضارات بتفاصيلها الدينية والاجتماعية والعاطفية. كما قام بربط كل ما تقدم ذكره بعالمنا الحديث موضحاً بأسلوب أدبي رفيع لا يقدح في البناء السردي للنص النقلة العلمية والمعرفية التي طرأت على العالم وأثرها على بني البشر. فمثلاً نجد الأحداث تنتقل من مشهد يقف فيه المرقش ثملاً تحت تأثير رؤية محبوبته وحوله الإبل والسوام ترعى الكلأ إلى مشهد آخر يقوم فيه طبيب بفذلكة بعض الأفكار المتعلقة بتقنية معالجة الصور الطبية بالرنين المغناطيسي للتصدي لحالة «مسعد» التي تشبه الموت الدماغي. ومسعد يأتي في دور المكون الإنساني للحضارة العربية المعاصرة بيد أنه يختزن في ذاكرته التي أصابها عطب مفاجئ الحنين الأبدي للحياة البدوية القديمة.
الراوي
تم سرد القصة على لسان الراوي العليم الذي لا يشارك في مجريات الأحداث، بل يقوم بتصويرها من على البعد سوى أنه قادر تماما على وصف أبعاد الشخصيات بما فيها البعد النفسي والعاطفي واستخدام هذا النوع من الرواة يجعل النص مفتوحا لاستيعاب قدرا وافرا من الأحدث التي تخدم الخطاب السردي بصورة أو بأخرى كما يبوح بحفنة من ا التأثيرات الثقافية المتركزة في النص على درجة التلقي عند القارئ عن طريق مجموعة من التقنيات السردية والصور التي يقوم برسمها.
على الرغم من هيمنة الراوي العليم على الأحداث إلا أن الكاتب استطاع أن يخلق نوعا من البناء السردي الأفقي المتواشج عبر استخدام مجموعة من الأصوات السردية المتمثلة في أنواع أخرى من الرواة فضلاً عن حديث الذات ومناجاة معالم الأمكنة حتى يظن القارئ أن الحجب قد انقشعت عن الراوي وهو يستدعي مشاهد من عمق التاريخ وهذا يوحي بأن الراوي قد قام بكل ما هو منوط به في الخطاب القصصي من تنسيق وتبليغ وتعليق.
ثقافة النص
تكاد تمثّل كل مفردة من مفردات رواية المرقش إحالة تحيل القارئ إلى مصادر علمية، تاريخية، طبية أو دينية أحيانا لتوسيع بعض الدوائر الثقافية التي ورد ذكرها في فضاء القصة والفضاء الروائي عالم مترامي الأطراف يفوق المكان أو الترتيب المكاني كمصطلح يشير إلى فيزيائية البقعة المستوعبة لسيرورة الأحداث.
استطاع ابن عايض صالح في توحده واتساقه مع الراوي العليم أن يبتدع فضاءات متعددة لاستدعاء أحداث تاريخية على الجانب الآخر من خط الزمن كحديثه عن قصة يوحنا المعمدان وأحداث هيروديا أو هجرة بعض اليهود من الشام إلى اليمن أو نحو ذلك في محاولة لطرح غائلة الصراع الأزلي بين الشرق والغرب أو الشرق و الشرق كما ساعدت بعض العوامل في توسيع ثقافة القصة كعنصري الاسترجاع (عودة الراوي إلى حدث سابق) والاستباق (سرد الحدث قبل وقوعه)، حيث قام الراوي باجترار بعض الأحداث في حضارتي الشرق والغرب من أغوار التاريخ وبذات القدر استعرض سمات الحداثة والخيال العلمي الذي يمكن أن يضفي على السرد نوع من الواقعية السحرية الشائعة في هذا العصر بين كتاّب الغرب والشرق.
استطاع الكاتب أيضاً أن يظهر أبعاد شخوصه بتؤدة وريث وهذا ما يسميه النقاد بنظرية الجبل الجليدي Ice Berg theory والتي شاع استخدامها عند كتّاب القرن العشرين كما يُلتمس ذلك جلياً في كتابات ايرنست هيمينغوي وفرانسيس سكوت فيتزجيرالد، حيث يقوم الكاتب بالكشف عن أبعاد الشخصية بصورة مشوّقة تجعل القارئ يشعر بأن الشخصية كالجبل الجليدي تلوح قمته وتضمر الأعماق قامته المهولة التي لا يمكن أن يصل إليها إلا بسبر أغوارها.
اللغة
وعلى الصعيد ذاته يجدر بي الإشارة للغة النص التي أباحت بأسرار القصة كما أنها عبّرت بصورة كبيرة عن مجريات الأحداث حيث اتسمت بالشاعرية الرصينة أحياناً وبالعلمية المتقنة تارة أخرى دون الخروج عن أدبية النص، بل احتفظت كل عبارة بالصبغة الروائية بما يوحي بالحس الأدبي الماتع للمسرود.
خاتمة
في ختام الحديث عن رواية المرقش يمكنني القول بأن النص استعمل الترتيب الزماني والمكاني كآليّة سردية لطرح مجموعة من القضايا الإنسانية بما فيها قيمة الحياة الروحية للجنس البشري وعلاقة الإنسان بالزمان والمكان فضلاً عن الوفاء للأماكن والأوطان كقيمة إنسانية سامية تبعث فينا حنينا يسمو بأرواحنا وأوطاننا كما أن الرواية تتسع لعدد وافر من الأقلام النقدية وقد تكون مصدر إلهام للأقلام الأدبية الصاعدة.
** **
د. إسحاق البدوي - السودان
issacjaffer100@gmail.com