تسير بنا المراكب نحو الحضرية، بدأنا بشكل جاد وحقيقي نخوض غمار الحضارة، ندخل غاباتها الضخمة مستمتعين بجمالياتها، وحذرين من مزالقها، وبالنظر للتاريخ والعلم والواقع فالحضارة لا تُجزأ، لا تقتص من نفسها لك، فهي إما تأتي بأكملها أو لا تأتي، لا نستطيع كبشر اجتزاء الحضارة، فإما أن نتركها تماماً، أو نستقبلها بجملتها، وبكل ما تحمله، من أمطار وعواصف، من ثمار وأشواك، ومن هذا المنطلق فنحن بحاجة ماسة للثقافة، لتشربها فرداً فرداً، فإن كانت الحضارة هي الحياة، فالثقافة ستكون أسلوبنا في هذه الحياة، نحن بحاجة لأن نزين رؤوسنا بالحلي الثقافية، بذاك البريق الذي يضيء الطريق لك ولمن هم حولك، بحاجة لأن نُغلّي قيمة أفكارنا من خلال ثقافتنا، تلك المستوحاة من جهدنا المبذول على أرواحنا، من التهامنا للكتب التي تُهضم في عقولنا لتولّد الجديد والمفيد، الثقافة حالة مجتمعية، ومركبة جماعية، وسقف ضخم، ومحيط عميق، ما أن يصيب مجموعة منا إلا وترى أثره على البقية ولو بمقدار بسيط، نقول في لغتنا العامة إن رغبنا بتدليل أمزجتنا أعطني (قهيوه) بالتصغير، ويقابلها التبسم والارتياح، وكأنها تعكس تواضعنا وبساطتنا وقناعتنا، أمور محمودة فُطر عليها العرب وامتُدحوا بها، وقِس عليها الكثير من المفردات التي تشمل نفس المعنى، لكن حين نقول (متثيقف) ونقصد بها من يحاول إبراز ثقافته أو يدعيها، نجد أن هذا التصغير يقابله الامتعاض والغضب، لأننا نعلم بأنه يمثل استصغار العقل وطريقة التفكير المهشم والفهم الضيق، ضد ما تتمتع به الثقافة بحقيقتها من اتساع وامتداد، بهيكلها المعنوي الهائل، ومعانيها المترفة الثرية، لذلك فالسبيل لها ليس سهلاً، فالثقافة ليست شهادة تحصدها، ولا منصباً وظيفياً تتقلده، ولا مبادرة تحتضنها، ولا برنامجاً تطلقه، الثقافة رحلة مستمرة، تلازمك كالاسم الأخير، ترافقك كل يوم كالفكرة والشعور، والمثقف من تعلم الكثير من الكثير، من طرق الباب المقفل، وبذر الأرض الجافة، من فتح الصناديق، وفتش عن البعيد قبل القريب، من يفرق بين ماء البحر والنهر، من يرى في الغروب ما لا يراه في الشروق، من ميز في الليل حلكة الظالم ورونق الحالم، في عالم مليء بالدمى المثقف هو من يكتب المحتوى، هو المفكر والمنتج والمحلل والناقد، هو صاحب العقلية المطاطية التي تصل هنا وهناك بسرعة البرق، هو من يرسم العقدة بشكل وردة بين خطين متوازيين، فحاجتنا في هذا العصر لهؤلاءمة، لقيادة التغيير، لاستلهام التحول والتحسين، لنكون أهلاً للحضارة، نمثل حضارتنا المحلية الخاصة بثقافتنا الخاصة، وهذه ستكون هويتنا المستقبلية المنشودة ورؤانا المرسومة، لنكون للعظمة كما نريد أن نكون، لنثري هذا العالم بالفكر الخالص الأصيل، لنصبغ الحضارة بألواننا المفضلة لنرتديها مفعمين بالإعجاب والرضا، ونرى بفضل الله ما تقدمه وتبذله وزارة الثقافة في هذا الحقل، فإسهاماتها الحثيثة تسرّع هذا التصور، فأمام كل هذا الجهد والعطاء كل ما تبقى هو حسن استقبال شباكك للهدف، أن تهيئ قالبك لتلك المواد الطازجة، أن تستثمر في ذاتك من أجل ذاتك ومجتمعك ووطنك، لأنها الإرث المتروك، والأثر الباقي، كيف لا؟ وهي تتغلغل في المجتمع كالخلايا في الجسد، بينما نجد أن الأمية هي السرطان الذي ينهش صحة المجتمع، الثقافة هي مضاد الاضطراب والقلق، وضمانة التمدن والازدهار، هي الهوية الرسمية، وبرهان الحضور.
** **
- مرام المشاري