كتب - د. محمد بن عبدالعزيز الفيصل:
ما إن سطعت شمس القصيدة العربية في سماء جزيرة العرب حتى شرع الرواة في تدوين أخبار العرب وأشعارهم، فكانت المعلقات العشر القاعدة التي انطلقت منها الحركة العلمية في البلاد العربية؛ التي أصبحت منارة للعلم والمعرفة في كل أنحاء العالم، فعُلقت القصائد العشر الطوال على أستار الكعبة، وتناقلها الرواة جيلاً بعد جيل، ليهتمّ ملوك العرب والمسلمين على مدى قرون بتأسيس المكتبات التي حفظت أخبار العرب وأيامهم، وأول مكتبة عربية تبرز في هذا الميدان هي مكتبة النعمان بن منذر ملك الحيرة التي حوت جرائد كتبت عليها المعلقات العشر، ومنذ أيام أبي قابوس - سقى الله قبره- أي قبل أكثر من خمسة عشر قرنًا، والاحتفاء بالعلم في البلاد العربية في صعود منذ العصر الجاهلي مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة: الراشد، فالأموي، ثم العباسي، فعصر الدول والإمارات، وصولاً إلى العهد الذهبي السعودي الذي نهض بعرب الجزيرة فازدهرت الحركة العلمية والثقافية، حتى وصلت إلى أعلى مستوى لها في هذا العهد الزاخر الذي يتسنّم فيه مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو سيدي ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن عبدالعزيز -حفظهما الله - قيادة هذا الوطن الغالي الذي نحتفل في كل يوم بإنجازاته في مختلف المجالات وشتى الأصعدة. ومنذ أكثر من أربعة عقود ومجلس مولاي خاد الحرمين الشريفين، إبان تسنّمه لإمارة منطقة الرياض والموضوعات العلمية لا تغيب عنه، فالملك منذ أن أتم حفظ القرآن الكريم وهو شغوفٌ بالعلم والمعرفة والاطلاع، فكان ولا يزال حريصًا على اقتناء الكتاب والقراءة، ومنذ ذلك الحين ومكتبته الخاصة في تطور لتشمل أنواعًا نفيسة ومتعددة من العلوم والمعارف؛ لتكون في طليعة المكتبات العالمية وصدارتها.
لقد شكل اهتمام الملك سلمان بالجزيرة العربية وتاريخها رافدًا مُهمًّا جعله -حفظه الله- شديد الحرص على جمع المصادر التاريخية العربية والأجنبية التي تتصل بتاريخ الجزيرة؛ فحفلت مكتبته الخاصة بكل المصادر المعاصرة والقديمة التي تناولت تاريخ جزيرة العرب، ليتطور هذا الاهتمام السامي الكريم بتأسيس دارة الملك عبدالعزيز التي أثبتت فاعليتها في المحافظة على تاريخ العرب والمسلمين عمومًا، وتاريخ الدولة السعودية بالخصوص وحمايته من العابثين، وبالفعل أصبحت الدارة التي يرأس مجلس إدارتها الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- حتى الآن كما أراد لها أن تكون فأضحت مرجعًا عالميًا في تاريخ المملكة العربية السعودية وتراثها وجغرافيتها، وما يتصل بذلك من تاريخ الجزيرة العربية وتاريخ العالمين العربي والإسلامي، ورافدًا حضاريًا يربط أجيالها، لتحقق رسالتها التميز في خدمة تاريخ المملكة العربية السعودية وتراثها وجغرافيتها، حفظًا وتنميةً وإتاحةً ونشرًا وهذه إحدى ثمار اهتمام الملك سلمان بالكتب، ولعلنا عبر هذا الإطار المهم يمكن أن نفهم جانبًا من فلسفة خادم الحرمين في عنايته بالكتاب الذي يمثّل قاعدة العلوم، ولعل هذا الإطار الفلسفي هو الأول من نوعه على مستوى التاريخ من ناحية الطرح والمعالجة، فهذه الرؤية أعمق وأشمل مما نتصور وما ذلك إلا جانبٌ من جوانبها؛ الذي تُمثل مكتبته -حفظه الله- اللبنة المعرفية التي انطلق منها هذا المشروع النهضوي العظيم الذي نعيشه الآن.
ووفق مطالعتي وبحثي فإنني لم أشهد مكتبة خاصة توازي مكتبة مولاي الملك سلمان بن عبدالعزيز -وفقه الله- على صعيدي القيمة والمحتوى؛ فالمكتبة التي تأسست في قصر النخيل، الذي كان يستقبل فيه خادم الحرمين الشريفين المواطنين، منذ أن كان أميرًا لمنطقة الرياض، فكان مجلسه ولا يزال مقصدًا للعلماء والمثقفين في مختلف المجالات من داخل المملكة وخارجها، ليكون منتدى ثقافي تُطرح فيه كل شؤون الثقافة والمعرفة، فسعة اطلاع الملك وحرصه على متابعة كل جديد في الميدانين العلمي والثقافي تغري العلماء بالحضور، وكان المجلس مجاورًا لمكتبة الملك، فكان -أيده الله - يناقش أهل العلم والمثقفين في كتبهم ومقالاتهم التي ينشرونها في الصحف والمجلات، فالمكتبة تحوي إرشيفًا خاصًا للدوريات والصحف والمجلات التي كان يتابعها ويرد على بعضها سواء أكانت محلية أم دولية.
وتصنف مكتبة الملك سلمان بن عبدالعزيز أنها المكتبة الأضخم والأكبر بين مكتبات الزعماء على مستوى العالم، حيث تتجاوز عنوانات المكتبة مليون ومئة وسبعين ألف عنوان ومجلد في مختلف العلوم والمعارف، إلى جانب قاعة للمطالعة والقراءة، وأرفف المكتبة وأثاثها من خشب السنديان الفاخر، والمكتبة صممت بمتابعة وإشراف من ربانها الملك سلمان، الذي حرص على أن تكون بيتًا لكل العلوم والمعارف خصوصًا ما ندر منها، وبهذا أصبحت المكتبة في طليعة المكتبات التي تطمح أنفس الباحثين لزيارتها، فهي درة المكتبات في العصر الحديث.
أكثر من مليون ومئة وسبعين ألف عنوان
ينتظر المجتمع الثقافي والعلمي بشغف تأسيس مركز الملك سلمان الذي ستنتقل إليه المكتبة الملكية التي تزخر بمادة علمية متنوعة شاملة، أشرف عليها الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- فتكونت خلال هذه المسيرة الطويلة مادة ثرية تتجاوز مادتها الأولية على مليون ومائة وسبعين ألف مادة ما بين كتاب مصورة ومقالة وصحف ومجلات وغير ذلك، جاء ذلك في حديث للباحث الدكتور: راشد بن محمد بن عساكر، خصَّ به «الجزيرة الثقافية»، حيث أكد أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- عُني منذ صغره بالثقافة والعناية بالقراءة فتكون لديه عبر المراحل الطويلة حبّ القراءة والبحث والمعرفة، ولا سيما بحثه في تاريخ المملكة العربية السعودية، حتى أصبح مرجعًا مهمًا للمؤرخين والكُتّاب والباحثين، فكان لاطلاع خادم الحرمين الشريفين وعنايته بتاريخ المملكة أهمية كبرى حمّست كثيراً من الجهات والأفراد والباحثين، فكان -حفظه الله- عندما يطلع على كتب الباحثين يتواصل معهم، ويبلغهم بملاحظاته الخاصة، ويناقشهم فيها فتكوّنت لدى خادم الحرمين الشريفين خلال هذه المرحلة الطويلة مكتبة حافلة ورائعة جدًا تربو مادتها الأولية على 1.170.000 مليون ومائة وسبعين ألف عنوان ما بين كتاب مصوّر، ومقال، وصحف، ومجلات، وغير ذلك من المحتويات التي سيزمع العناية بها في مؤسسة الملك سلمان التي سوف تنشأ قريبًا - إن شاء الله.
وقد أوضح د. العساكر أنّ حبّ القراءة انتقل إلى أبناء الملك -حفظه الله- فالأمير الراحل فهد -رحمه الله- كان شغوفًا بالقراءة، وقد انعكس ذلك أيضًا على الأمير سلطان بن سلمان الذي أسس مؤسسة التراث الخيرية التي لها عناية بتاريخ المملكة.
وكما أكد د. راشد أن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله - لديه اهتمام كبير جدًا بالتاريخ ولديه اطلاع على تاريخ الدولة السعودية الأولى والدولة السعودية الثانية والدولة السعودية الثالثة، إلى جانب اهتمامه بتاريخ الملك عبد العزيز -رحمه الله-، فهو مرجع أساسي في تاريخ المؤسس، وأذكر أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- سأل مدير مكتبته الخاصة الأستاذ: منصور مهران عن الكتب التي قرأها في أحد الأشهر، فأشار إلى ثلاث وأربعين كتابًا، ويتضمن ذلك تعليقات واتصالات مباشرة مع الباحثين، فخادم الحرمين مدرسة جامعة نتعلم منه الاهتمام بالقراءة والكتب.
.... يتبع
تحفة ملكية ثرية
تأسر مكتبة الملك سلمان من يتجول فيها، فهي لا تضم إلا النسخ النادرة والمهمة من الكتب، لتكون تحفة ملكية ثرية بشتى أنواع المعارف الموسوعية، كما أنها المكتبة الخاصة الأكبر والأفخم في المملكة على الإطلاق، وكل الباحثين على اختلاف تخصصاتهم يتوقون لزيارة المكتبة والاستفادة من محتوياتها، فهي ستتاح قريبًا للباحثين، وممن تشرف بزيارة المكتبة والاطلاع على محتوياتها الثمينة، وقدم وصفًا دقيقًا لها الباحث الأستاذ: منصور بن محمد الشويعر، الذي أبدى إعجابه الشديد بالمكتبة ومحتوياتها ليصفها بأنها تحفة ملكية ثرية ليؤكد في حديث خص به «الجزيرة الثقافية» أن مكتبة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- تعود نشأتها إلى البدايات المبكرة لاهتمام الملك سلمان بالقراءة والكتاب، حيث رعى المكتبة منذ صغره بعد أن تلقى-حفظه الله- تعليمية الأساسي في مدينة الرياض.
وقال الشويعر بعد زيارته للمكتبة: تشرّفت بدخول المكتبة والاطلاع على محتوياتها، حيث تضم نفائس الكتب النادرة والمخطوطات من المجموعات العامة وكتب علوم الدين الإسلامي وكتب التاريخ والتراجم والكتب الخاصة بتاريخ المملكة والخليج العربي، وكتب الرحلات والمذكرات وبعض الموسوعات والرسائل الجامعية والدوريات وفنون الأدب والشعر، وتتألف المكتبة من قاعتين رئيسيتين وقاعة ثالثة منفصلة هي بمثابة مكتب خاص للمطالعة والقراءة، وفي منتصف المكتبة ممرات على هيئة شرفات متصلة بسلم حلزوني من أجل الوصول إلى الأرفف العلوية (من خشب السنديان).
وأشار الشويعر إلى أن المكتبة تنمو باطراد، حيث يتم تزويدها بالجديد من قبل المسؤولين عنها وهي مفهرسة، وهي على درجة كبيرة من الأهمية التاريخية والقيمة المعرفية والعلمية التي تعكس اهتمام الملك سلمان بكتب العلم والمعرفة وقراءة التاريخ، وإدراكه لأهميتها في صنع نهضة الأمة الكبرى التي نعيشها اليوم ويقود مسيرتها بمعاونة سمو ولي العهد -حفظهما الله جميعًا.
أكبر مكتبة منزلية خاصة
تعد المكتبة المنزلية التي يمتلكها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله- أكبر مكتبة خاصة يملكها زعيم دولة في هذا العصر، وتضم أهم المراجع والموسوعات والأعمال المرجعية في العلوم الدينية، إلا أن المصنفات التاريخية تحظى منها بالنصيب الأوفر، إذ تضم المكتبة أهم المصادر والمراجع في والتاريخ العربي والإسلامي، كما تحوي كل ما يتعلق بتاريخ الدولة السعودية قديمًا وحديثًا وسيرة الملك عبد العزيز، وتراجم الأعلام والقادة وكتب الرحلات والمذكرات وتتميز المكتبة بالفهرسة الكاملة على نظام ديوي المعروف، مما يسهل الرجوع السريع للمصادر والمراجع بشكل يومي، وفق ما ذكره الدكتور: فايز بن موسى البدراني، حيث تناول في حديث خاص لـ»الجزيرة الثقافية»، أن للمخطوطات والوثائق نصيباً وافراً من اهتمام خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- ولذا فإن المكتبة تحوي نصيبًا منها.
وأشار د. البدراني إلى المشرفين على المكتبة، حيث ذكر أن أول من كان يشرف عليها الأستاذ: عبدالله بن عبدالرحمن السلوم -رحمه الله- ثم خلفه الأستاذ: منصور مهران، الذي يعمل في المكتبة منذ ثلاثين عامًا وهو مكتبي متمرِّس وخبير في المكتبات، وقد التحق بالعمل 1407هـ.
وفي نهاية هذا التقرير الذي تناولنا فيه موضوعًا مهمًا، استعرضنا خلاله المكتبة الخاصة لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- والتي تشكل أحد الروافد العلمية الأساسية لسيدي سمو ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-، حيث أضاءت لنا المكتبة جوانب مهمة في شخصية الملك سلمان، وتأثير الارتباط بالكتاب والمداومة على القراءة على فكر الإنسان ورؤاه وتطلعاته، فكيف إذا كان هذا الإنسان زعيمًا يقود العالمين العربي والإسلامي بحجم خادم الحرمين الشريفين، الذي يحمل بمؤازرة ولي العهد -وفقهما الله- مشروعًا نهضويًا شاملاً للعرب والمسلمين، وقد لمسنا نتائجه وثماره في وطننا الغالي، وإن شاء الله يمتد ذلك لكل الدول العربية والإسلامية، كما قال سمو ولي العهد في أكثر من مناسبة أن الشرق الأوسط هو أوروبا الجديدة، فالعلم الذي ينطلق من ردهات المكتبات هو أساس نهضة الأمم والمجتمعات.
ومما أفخر به أن هذا التقرير قد طرح رؤية الملك سلمان النهضوية الشاملة التي تأسست عبر القراءة والاطلاع على عشرات الآلاف من المصادر والمراجع التي حفلت بها مكتبته الخاصة، التي زودنا بمعلومات جديدة عنها طرحها لأول مرة في هذا التقرير باحثون أفاضل، تشرّف بعضهم بزيارة المكتبة وأبدع في وصف تصميمها ومحتوياتها، كما جاء في ثنايا التقرير، ومما يشرّفني أن أطرح هذا الموضوع بمناسبة قرب حلول الذكرى التاسعة لمبايعة مولاي خادم الحرمين الشريفين ملكًا على المملكة، التي سنحتفل بها بعد أربعة أيام إن شاء الله، في يوم الأربعاء 3ربيع الثاني 1445هـ، الموافق 18 أكتوبر 2023م.