كتاب الباحث الاستقصائي والناشر محمد السيف عن سيرة السياسي حمزة غوث (1880-1970)، الصادر حديثاً، ليس كتاب سيرة واحدة فقط، بل هو كتاب ثلاث سير: سيرة حمزة غوث، موضوع السيرة، وقرأت فيه سيرة كاتبها في توجهه وأفكاره وتدقيقاته وتحرُّجه العلمي، وفي أسلوبه واختياره للغته، ومزجه بين الفصيح والعامي الحي. أما السيرة الثالثة فهي بعض من سيرة تأسيس الدولة السعودية الثالثة ومؤسسها المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود.
مع السبعمائة صفحة التي جمعتها دفتا هذه السيرة بملاحقها ووثائقها المحلية، والتركية، والبريطانية، والفرنسية، ومع عشرات المصادر والمراجع التي عاد إليها محمد السيف، والحكايات التي استمع إليها واختياره للصور التي نشرها والتدقيق في شخوصها، ومع تساؤلاته لعدد من الباحثين والمهتمين، الذين أمدَّه بعضهم بما لديه من معلومات ووثائق، مع كل ذلك استغرقتُ في استيعاب تاريخ سيرة بناء وطن وتثبيته فوق رمال الصحاري المتحركة.
مع سيرة حمزة غوث، يروي السيف من خلالها سيرة نهاية القرن التاسع عشر في منطقتنا وصولاً إلى سبعينات القرن الماضي، حيث أدرك اليقين حمزة غوث. ومع كاتب السيرة تتجول في مدينة الرسول لترى سورها وأحيائها وتتعرف على أهلها، وعلى مهنة الأدلاء، وهي المهنة التي يقوم أصحابها بتسهيل مهام الحجاج والمعتمرين والزائرين لمكة والمدينة، فتكتشف تنظيمها وتوزعها بصكوك تباع وتشترى وتورَّث. إنها أشبه بوكالات حصرية تسجل في السجلات وقد تصادر وتغتصب وقد تعود إلى أهلها حين تتبدل الدول. كما ترى حركة التعليم للعلوم الشرعية وكتاتيب الحرم النبوي وابتعاث العلماء إليها، والتلامذة الملتحقة بها من المدينة ومن جوارها، ومراحل التعليم الابتدائية والإعدادية وما يُسمى بالمرحلة الراقية. كما تتعرف على السلطات فيها وتراتبياتها، من سلطة القضاء إلى سلطة الشرطة فالحاكم العسكري (المحافظ) إلى سلطة شيخ الحرم النبوي، وهي السلطة العليا التي تتصل بالإستانة ثم تقف على انتفاضة أهل المدينة في 1905 ضد تعسف حاكمها العثماني وتمردها عليه وهي حينها سابقة لم تعرفها البلاد الشامية، وهي الثورة التي شارك فيها حمزة غوث شابا ومثلت بدايات دخوله المعترك السياسي.
الموقف من الثورة العربية الكبرى
من خلال الفصول الأربعة الأولى لسيرة حمزة غوث نتعرف على الموقف المعادي للملك حسين بن علي ضد وصول قطار الحجاز إلى المدينة، كما نتعرف على صحيفة «الحجاز» التي صدرت لمواجهة صحيفة «القبلة» التي يصدرها الملك حسين في مكة. وقد أمّن شكيب أرسلان مطبعة حديثة لصحيفة الحجاز وتولى تحريرها حمزة غوث. كما نتعرف على قصف اتباع الملك حسين للمدينة ومحاصرته لها وتمكُّن معظم أهلها إلى الخروج شمالا هربا من بطشه. وفي آخر الخارجين كان بطل السيرة وعائلته. حمزة غوث الذي رد على الأميرين فيصل وعلي، أبناء الملك حسين، حين فاوضاه على الالتحاق معهم بما عُرف لاحقا بـ»الثورة العربية الكبرى الخ»، ردّ غوث عليهما وفي وجهيهما بما معناه أنه «ما الحسين إلا أداة بيد الإنكليز، ستُحرق بعد أن يحققوا أمر مرادهم».
يكشف لي هذا الرد الحاسم والفوري على الأميرين فيصل وعلي، عن فراسة وعروبة عميقة، وتنبُّه للمخططات الاستعمارية، وعن عداوة عميقة كانت كامنة في عمق حمزة غوث تجاه بريطانيا.
هذا الرد ضاعف من حقد الملك حسين عليه، وقد بيَّنت الوثائق البريطانية أن الملك حسين أهدر دمه وفبرك له تهمة سرقة مقتنيات ثمينة كانت في الحجرة النبوية، علما أن كل هذه المقتنيات وغيرها من المكتبات الثمينة قد رحلها الاتراك إلى الإستانة قبيل انسحابهم من المدينة.
عداوة غوث لبريطانيا أستشفُها أيضا في أكثر من مكان في السيرة. وحتى حين يختار حمزة غوث تسمية حديقته الكبيرة ومسكنه باسم «حدائق الزهور»، فما أحسبها إلا تسمية قريبة من أسم «قصر الزهور» و»إذاعة قصر الزهور»، التي كان الملك غازي قد اتخذ منها صوتا عبر الأثير يحرّض فيه ضد بريطانيا.
في إمارة آل رشيد
يخصّص محمد السيف الفصل السادس لالتحاق حمزة غوث بإمارة الرشيد في حائل مستشاراً سياسياً ومندوباً لها لدى الفرنسيين في الشام. يتضح في هذا الفصل فهمُ غوث للتنافس الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا، فيعمل عليه بالاتصال بالجنرال غورو في بيروت والاتفاق معه على تسليح ودعم إمارة الرشيد، التي بقيت على ولاء عثماني سابق ومعاداة للإنكليز، رغم إدراك غوث لاستحالة بقائها، بسبب الصراعات بين أمرائها، وبسبب القوة الصاعدة حينها لسلطان نجد عبد العزيز آل سعود، ابتداءً من 1902 حين استرجع الرياض من آل الرشيد، فارضا نفسه بقوته على الأرض وبفراسته.
فراسة الملك عبد العزيز كانت أيضا في فهم حدود القوة، حيث حذر الإخوان من عواقب ومترتبات تغلغلهم شمال ا بعد حائل، وفراسته أيضا في فهم حدود دور الشورى، فهي للاستئناس. كان دور مجلس المستشارين للملك دورا استشاريا، يطرح عليه عبد العزيز سؤالاً ليسمع إجابتهم علها تضيف جديدا على ما قرره سابقا، فإذا ما تبيَّن له غيابهم عن الجواب الأصلح، يخبرهم بخياره. كما حصل مثلا في اختياره تسمية حمزة غوث سفيرا له في إيران، إذ قال لهم إنه ابتداء من اسمه (حمزة)، فاسمه يسهل للدولة السعودية إمكانيات الاستفادة من إيران.
انهارت دولة الرشيد التي نشأت علاقة حمزة بأسرتها أيام لجوء أحد أمرائها وأسرته للمدينة، في إحدى مراحل التصارع بين أمرائها أنفسهم، وبوجود امرأتهم الحازمة والقوية. (من قال إنه لم يكن هناك دور باكر للمرأة النجدية إن كانت مؤهلة له).
لقد استنتجتُ من سيرة غوث إن إمارة الرشيد إمارة نجدية تنتمي نشأةً وسلوكاً إلى منطقة نجد، وأن نجد قلب الجزيرة العربية، ولبُعدها في الداخل كانت جغرافياً عصيَّة على كل الغزاة، على عكس شواطئ شبه الجزيرة العربية، التي فرضت الجغرافيا السياسية وديموغرافيتها أن تكون مختلفة عن داخل الجزيرة وعُرضة للحملات الاستعمارية من البرتغاليين والبريطانيين والعثمانيين والمصريين.
تفاصيل غوث مع إمارة الرشيد ومقابلته للجنرال غورو، وخطته الشاملة لدعم ما تبقى من زمن هذه الإمارة، من خلال أمير الكويت والمندوب البريطاني فيها، والمندوب السامي الفرنسي والمندوب البريطاني في بغداد والجنرال غورو والملك فؤاد، ملك مصر، تغطي الفصل السادس من سيرة حمزة غوث.
مع الفصل السابع (الطريق إلى الرياض) إلى نهاية الفصل الثاني عشر (في دروب الحجيج)، هناك مئتا وعشر صفحات تحكي تفاصيل نشاط غوث مستشارا للملك عبد العزيز.
حين وصل غوث عائدا إلى نجد من الشام رافضا التقديمين الفرنسي والبريطاني له بالبقاء في دمشق، بعد سقوط دولة الرشيد، مُدركا أن هدفهما مصلحتهما الاستعمارية. وقد كان هناك تخوف بريطاني أبداه قنصلها في دمشق تجاه دولته من توسع الملك عبدالعزيز لمدّ نفوذه شمالا إلى الحدود التركية وحصوله على اعتراف من الكماليين بأنه «ملك جميع العرب» صفحة 223.
كانت دولة الرشيد قد استسلمت لسلطان نجد عبد العزيز، فأكمل حمزة غوث طريقه باتجاه الرياض، التي اتخذها عبد العزيز «منطلقا له في مشروعه الوحدوي الكبير وقد حقق انتصارات مهمة جعلت منه قطبا عربيا مهما ومؤثرا، وهو يستعد أيضا لجولة ثانية من الجهاد الوطني، محاولا توحيد ما يمكن توحيده تحت راية واحدة وصولا إلى عام 1351هـ/ 1932م حينما أعلن عن اسم دولته الجديد، المملكة العربية السعودية».
في العهد السعودي
واصل حمزة غوث طريقه إلى الرياض رغم نصيحة القنصل البريطاني في دمشق بعدم السفر إلى نجد، لكنه مضى في سبيله. وفور وصوله إلى الرياض توجّه لمجلس والد الملك، الإمام عبد الرحمن الفيصل، الذي كان جالسا يستقبل المهنئين بانتصارات السلطان عبد العزيز، الذي كان حينها خارج الرياض. كان غوث يعرف انه مغضوب عليه لوقوفه إلى جانب إمارة الرشيد، وما أن لمحه والد السلطان حتى رحَّب به وأجلسه إلى جانبه.
كانت أخبار حمزة غوث من ولادته في المدينة إلى سقوط إمارة الرشيد قد دلّت على شخصه ومناقبيته وفهمه للمعادلات الدولية، وتمسكه بالتطور الطبيعي للحياة مع التزامه بمفاهيم «المروءة «، وهي أس الوازع الداخلي العربي الأصيل، كما يوضح محمد عابد الجابري في كتاباته.
يسأل الملك عبد العزيز غوث بما معناه: أجئتنا راحلا أم مقيماً؟ فيجيب حمزة إن أردتني راحلا فأنا راحل، وإن أردتني مقيما فأنا مقيم. هذه الإجابة «العظامية» يلتقطها الملك عبد العزيز، فيرد عليه مُبينا ما عليه وما له ببضع كلمات انفرجت لها أسارير غوث، فأرى في هذا الموقف الملك عبد العزيز شخصية عملية حاذقة، يتجاوز الماضي ويتطلع إلى الأمام. لا يأسره الماضي، ويمحي ما سبق ويتناساه، ويفتح صفحة جديدة لأهلها المؤهلين لها.
ضمّ الملك عبد العزيز حمزة غوث إلى مجلس مستشاريه. هذا المجلس أُشبِّهه بمركز دراسات سياسية عربية، وتعبيرا عن نظرة عبد العزيز إلى أولوية الجوار العربي ضمّ فيه المصري حافظ وهبة إلى جانب السوري يوسف ياسين، وفؤاد حمزة اللبناني الدرزي، ويتوسع ليبلغ تعداده قرابة الثلاثين بينهم الليبي وغيره، ويتوسع دولياً إلى محمد أسد. من أصدقاء الملك، هناك عبد الله فلبي، الخبير بالطبيعة والناس، وهو من أدخل أرامكو بديلا عن البريطانيين إلى السعودية، وعليه ففلبي - الذي أسلم لاحقاً- كان يكره بريطانيا، وطبعاً لم يخف هذا على الملك عبد العزيز، وإن خفي عن حمزة غوث الذي لم يستسغ شخصه.
يلحظ محمد تركي الربيعو، الكاتب السوري المقيم في تركيا، في عرضه لكتاب محمد السيف عن سيرة حمزة غوث، التطور الكبير والمهم الذي أدخله السيف على أدب كتابة السير وإدخال الرواية الشفهية وتبدل أنماط السرد. والربيعو وإن كان أحد نماذج الأدب السوري في التغريبة التركية لكن أثر أبيه، المؤلف الغزير الإنتاج تركي الربيعو، واضح فيه. وقد لاحظتُ مثل هذا في تنقُّل السرد عند محمد السيف بين الفصحى السهلة وإدخال بعض العبارات للهجة المحكية الكاشفة عن اللحظة الأولى للانفعال، كقول أحد رجال عبد العزيز حين لحق مسرعا بحمزة غوث يبلغه جملة بلهجة محلية نجدية من كلمتين أوردها السيف متعمدا بلهجتها وصوتها لدلالاتها: «الشيوخ يبونك».
خلال فترة أوائل الحرب العالمية الثانية كانت بغداد بمثابة «بروسيا العرب» بحكومة رشيد عالي الكيلاني وضباط المربع الذهبي ويونس بحري صاحب إذاعة صوت العرب من برلين، وفيها يونس السبعاوي الموصلي وزير النفط الذي وضع الأساس لإنهاء احتكار بريطانيا للنفط العراقي، ومعهم مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي لجأ إليها مع المئات من المجاهدين. كما كان فيها مقابلهم « الوصي» و «أبو حنيك « الذي كان كل شغله الدس والشوشرة ورمي الفتن على وطنيي العراق وتحريض البريطانيين عليهم، متهما إياهم بالعمالة لألمانيا النازية وأنهم مُحرَّكون من قبل سفيرها في بغداد. وخلال هذه الفترة نرى في السيرة تنبيهات وتحذيرات الملك عبد العزيز لسفيره في بغداد حمزة غوث من أن يتورط معهم لعلاقتهم بالسفير الألماني. أرجح هنا أن الملك عبد العزيز كان مُدركاً بالكامل لعواطف حمزة غوث، وكان أيضا مدركا لهشاشة الموقف الألماني، خصوصا بعد غزوه لروسيا وانكسار روميل في العلمين.
كان الملك حذرا جدا خلال مرحلة لم يتبيَّن حسم نتائجها. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية وصل إلي الرياض مستغيثاً رشيد عالي الكيلاني متسللا باسم آخر، فاستدعى الملك فورا حمزة غوث ليتأكد من حقيقة شخصية مُحدثه. وعندما تأكد الملك عبدالعزيز أغاثه ومنحه اللجوء السياسي، وقامت قائمة بريطانيا ولم تقعد، وأرسلت كبار عسكريها تريد تسلم الكيلاني. وهنا رفض الملك عبد العزيز معلنا أن تمسكه قائم على الأعراف العربية الأصيلة. وأسأل: هل كان الملك سيقدم لهم رشيد عالي الكيلاني؟ الجواب طبعا لا. والسبب مدفون في قلب عروبة عبد العزيز وعروبة نجد نفسها. ألم يكتب القنصل البريطاني في بغداد سنة 1860 أنه ظهر في أسواق بغداد بعض العرب البدو ينادون بخليفة عربي؟ ثم هل كان بإمكان العثمانية الذين فشلوا أمام نادر شاه باستعادة بغداد والبصرة في أواخر القرن الثامن عشر لولا الغارات التي شنتها قبائل نجد حينها عليهما.
رواية تمهيد طريق الحج من بغداد إلى المدينة، والتي تولاها حمزة غوث ورسم الطريق وتحديد معالمه، وأنواع السيارات التي تمر به، وحمولتها من ركاب ووقود، وطبيعة الأرض، ونوعية المياه من برك وآبار وصلاحيتها للشرب، والتدليل على أمنها وتقاسم العائدات بين العراق والسعودية، كل هذا دل على أهمية الحج المعنوية وأيضا المادية، وكمصدر للدخل قبل الفورات النفطية التي التقط اليوم ولي العهد الأمير محمد بن سلمان اقتراب نهاية فورة الطلب على النفط ليبني رؤيته للملكة في عالم ما بعد النفط.
مع توسع السلطنة من نجد إلى الحجاز وتوسيع السلطان عبدالعزيز تعريفه إلى ملك المملكة العربية السعودية، يزور الملك عبد العزيز المدينة ويشرف حمزة غوث بزيارته في منزله، ليستقبل وفود المدينة وما حولها من القبائل. يهتم محمد السيف بتبيان كيف طلب حمزة غوث من أبنائه الدخول للسلام وما في ذلك من آداب، مثل تقبيل ظاهر كف يد الملك وعدم وضعها على الرأس. هذا الاهتمام من السيف يكشف عندي عن معانٍ كثيرة تغيبُ عنا في بلاد الشام عامة. فتقبيل ظاهر الكف يكون للرجال، أما تقبيل باطنها فهو للنساء، وعدم وضع الكف على الرأس يكون تجنبا لشبهة تقديس الأشخاص وهذه من صميم التوحيد.
وعلى الرغم من وصول غوث إلى سن التقاعد ورغبته في تمضية بقية عمره بعيدا عن الوظيفة ومهماتها، منذ وفاة المؤسس الملك عبد العزيز، فإن الملك سعود أصرَّ على بقائه في الوظيفة معه للاستفادة من خبراته. والتي استمرت لبداية الستينات حين راح الجسد يستسلم أمام الأمراض، بينما بقيت الروح صامدة إلى أجلها المسمى.
خلال هذه الفترة تابع حمزة غوث حياته في بيته ضمن برمجة نظمها لنفسه، قبل الظهر وبعده. وليت الراوي محمد السيف توسَّع في غداء حمزة غوث الذي كان يتناوله منفرداً في غرفته بالطابق العلوي من داره، في «حدائق الزهور» كأنما نشاهد عيني غوث وهو ينظر إلى سنوات طفولته في مدينته التي ولد فيها وركض صبياً خلف أبيه، يسترق السمع إلى كبارها الذين يزورون أباه ويجتمعون إليه، يتباحثون في سوالف وقصص تلك الأيام.
إن محمد السيف في سرده لهذه السيرة بلغته وطريقته يأخذ القارئ معه من جذور الشجرة، ليصعد به مع الساق إلى الأغصان والأوراق الوارفة.
** **
- فاروق عيتاني