احتفل الأدباء والنقاد السعوديون – الشهرَ الماضي - بانطلاقة جمعية الأدب (المهنية)، وذلك بعد سنتين تقريباً من إنشائها، أي بعد مدة كافية لفهم السياق الذي تشكّلت فيه، وفهم موقعها من منظمات القطاع غير الربحي الثقافي، وفهم الدور الذي يُنتظر منها على وجه التحديد، لكنْ لفتَ انتباهي العكس تماماً، إذ عبّرتْ نسبةٌ كبيرةٌ من المشاركات والأسئلة والانطباعات داخل الملتقى وخارجه عن نقصٍ في المعرفة بهذا كله.
لفت انتباهي أيضاً دورانُ أغلب المشاركات والأسئلة عن تجربة العقود السابقة، تجربة (الأندية الأدبية)، و(الجمعيات)، و(مؤتمرات الأدباء)، و(ملتقيات المثقفين)، فقد اختار كثيرون الانطلاقَ منها في تدشين تفاعلهم مع هذه الجمعية؛ الأمر الذي جعل الحديث عن مستقبلها، أو عن قطاع الأدب بوجهٍ عام بعيداً عن السياق الجديد وغاياته.
لفتت انتباهي أيضاً سيطرةُ الهموم الفردية على التفاعل، فلكل مدعو أو مشارك في البرنامج أو متفاعل مع المناسبة من قريب أو بعيد تقييمُهُ الخاص للقطاع، وهمومه الخاصة التي تؤطّر انتظارَه، وقد تتحكّم مستقبلاً في تقييمه لمبادرات الجمعية وبرامجها ومشاريعها، وقد ظهر لي هذا أيضاً في تصريحات بعض منسوبي الجمعية!
لم يسمح لي الظرف بإجابة الدعوة الكريمة لحضور الملتقى، لكنني تابعتُ بثَّ جلساته، واطلعتُ على تدوينات كثير من المشاركين فيه، والتقيتُ بعضَهم بعد الملتقى بأيام، وقدّرتُ أنّ ثمة حاجةً ملحّةً للكتابة عن بعض النقاط، على سبيل التفاعل مع هذا الحدث المهم، فكانت هذه المقالة بأجزائها الثلاثة: (السياق)، و(الموقع)، و(التوقّعات).
جمعية الأدب والسياق الثقافي والإداري
إن النقطة التي يجب أن نبدأ منها الحديثَ عن هذه الجمعية هي السياق الثقافي والإداري الذي تشكّلت فيه، ولستُ مبالغاً إذا قلت إنه لا يمكن فهم هذه الجمعية (ولا غيرها من الجمعيات الجديدة) فهماً جيداً إلا بعد الاطلاع على الوثائق الآتية مرتّبة:
- رؤية المملكة 2030.
- برنامج التحوّل الوطني (في مرحلتيه: الأولى والثانية).
- نظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
- اللائحة التنفيذية لنظام الجمعيات والمؤسسات الأهلية.
- الإستراتيجية الوطنية للثقافة.
- إستراتيجية وزارة الثقافة للقطاع غير الربحي.
وجميع هذه الوثائق منشورة، يمكن العودة إليها في مظانها الرسمية.
ترتبط جمعية الأدب المهنية وأخواتُها بسياقٍ ثقافي وإداري جديد دُشِّنَ في أبريل من عام 2016م، حين وافق مجلس الوزراء على رؤية المملكة 2030، لتنطلق بعد ذلك برامجها التنفيذية الكبرى، بداية بـ(برنامج التحول الوطني)، الذي أطلقه مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية في يونيو من العام نفسه، وغطى في مرحلته الأولى (2016 – 2020م) ثمانية محاور، يعنينا منها المحور الخاص بـ (تعزيز التنمية الاجتماعية وتطوير القطاع غير الربحي)، الموُجّه لتحقيق ستة أهداف إستراتيجية، أهمها:
- (دعم نمو القطاع غير الربحي) بزيادة أثره الاقتصادي، وتوسيع نطاق خدمات المنظمات غير الربحية.
- و(تمكين القطاع غير الربحي من تحقيق أثر أعمق) بتطوير منظومة الخدمات والحلول غير التقليدية، وتمكينها من تقديم خدمات مؤثرة ومستدامة، إضافة إلى حوكمتها.
ولخدمة هذه الأهداف طرح البرنامج (38) مبادرة، منها: مبادرة (حوكمة المنظمات غير الربحية وتصنيفها)، ومبادرة (إسناد الخدمات الحكومية للقطاع غير الربحي)، ومبادرة (تأسيس الوحدات الإشرافية على المنظمات غير الربحية في الجهات ذات العلاقة وتسريع تشغيلها)، ومبادرة (تأسيس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي).
جاءت بعد ذلك المرحلة الثانية من برنامج التحول الوطني (2020 – 2025م)؛ لتؤكد هذا التوجه العام، وتدعمه بمبادرات أكبر وأبعد أثراً، ومن يتابع التطور المستمر في القطاع غير الربحي يعرف أن جميع هذه المبادرات قائمةٌ اليوم، وتؤدي دوراً مهماً في التنمية.
كانت وزارة الثقافة في مقدمة الوزارات التي اهتمت بهذا التوجه، فأعدّت دراسة تحليلية للقطاع الثقافي غير الربحي في المملكة وفي عدد من دول العالم، وانتهت منها إلى إستراتيجية خاصة للقطاع غير الربحي الثقافي، اعتمدها سمو وزير الثقافة في مارس 2021م، ومن مخرجاتها اللافتة دعم تأسيس 16 جمعية مهنية ثقافية في جميع القطاعات الثقافية، وقد أُسّست هذه الجمعيات بالتتابع، بداية بإعلان تأسيس جمعية المكتبات المهنية (في سبتمبر 2021م)، وانتهاء بإعلان تأسيس جمعية المتاحف (في سبتمبر 2023م).
إن النتيجة المهمة التي نخرج بها من قراءة هذه الوثائق يمكن تلخيصها في نقطتين:
- أولاهما: أنّ جمعية الأدب المهنية جزءٌ من (منظومةٍ جديدةٍ) للقطاع غير الربحي، جاءت – أولاً وقبل كل شيء - استجابةً لمسؤوليات وغايات فرضتها رؤية المملكة 2030، ومجموعة البرامج التنفيذية المرتبطة بها.
- وثانيتهما: أن هذه الجمعية – كما الجمعيات الأخرى – مرتبطةٌ بخطّ إستراتيجي ممتد، طوله الزمني سبع سنوات، بداية من (رؤية المملكة 2030)، ثم (برنامج التحول الوطني: 2016م)، ثم (الإستراتيجية الوطنية للثقافة: 2019م)، ثم (إستراتيجية وزارة الثقافة للقطاع غير الربحي: 2021م)، ثم تأسيس الجمعيات المهنية (2021 – 2023م)، ثم إعلان انطلاقتها واحدة تلو الأخرى.
إذا انتبهنا إلى النقطتين السابقتين سنخرج تلقائياً من معضلة التعاطي مع جمعية الأدب بوصفها بديلاً أو رديفاً لمؤسسات ثقافية قائمة، أو بوصفها استجابة لتوصيات طرحها الأدباء في مرحلة سابقة، أو بوصفها حلاً لمشكلات تجربة معينة، وسيكون منطلقنا في التفاعل معها هو ركائز الرؤية وأهدافها الإستراتيجية، وبرامجها التنفيذية، وجملة المبادرات الخادمة لها، وهذه نقطة مهمة لم تُبرز في الملتقى بما يكفي، وأثر استحضارها أو نسيانها كبيرٌ وفارق.
أضيف أيضاً أنّ الانتباه إلى هاتين النقطتين سيغير طريقة تفكيرنا حول هذه الجمعية (من داخل الجمعية وخارجها)، وسينعكس هذا التغير على الخطط التنفيذية لمبادراتها وبرامجها من جهة، وعلى أسئلتنا ونقدنا من جهة أخرى؛ لتبدوَ أكثرَ انسجاماً مع الخط الإستراتيجي، وأقدرَ على التعبير عنه، وعن الرؤية الوطنية الجديدة للفعل الثقافي، وللقطاع غير الربحي منه بوجهٍ خاص.
الموقع:
إذا حققنا شرط المعرفة بالسياق الذي نشأت فيه جمعية الأدب المهنية، سيتعين علينا فهم موقعها بين منظّمات القطاع غير الربحي الثقافي، وهذا الفهم مشروطٌ بفهم إستراتيجية وزارة الثقافة للقطاع غير الربحي، ويمكن الاطلاع على خطوطها العامة في موقع وزارة الثقافة.
لقد أشار الإعلان عن هذه الإستراتيجية إلى تصنيفٍ من خمسة مستويات، هي:
- المؤسسات الأهلية
- الجمعيات المهنية
- الجمعيات المتخصصة
- الجمعيات التعاونية
- أندية الهواة.
وقد فسّرت الإستراتيجية طرحَ هذه المستويات الخمسة برغبة الوزارة في التمكين للمنظمات الثقافية غير الربحية، والتجاوب مع حاجات الممارسين والهواة والمهتمين (المتمايزة بطبيعتها) في مختلف القطاعات الثقافية، إضافة إلى قدرة هذا التصنيف – من وجهة نظر الإستراتيجية - على توسيع الممارسة الأهلية للثقافة والفنون.
إن دخول (الجمعيات المهنية) ضمن هذا التصنيف، يعني ضرورةً تميزها من باقي مستوياته، وهذا التميز مهم لفهم الدور المنتظر من الجمعية، ولتحديد منطلقاتها وأدواتها وغاياتها. وبالنظر في الإطار العام للإستراتيجية يمكن أن نتمثل هذا التميز بالآتي: - الحد العددي، فهي ستّ عشرة جمعية مهنية فقط، (أو لنقل: جمعية مهنية واحدة على رأس كل قطاع ثقافي)، وهذا الحد لا ينطبق على باقي المستويات؛ إذ يصح أن تُنشأ عشراتُ الجمعيات المتخصصة وأندية الهواة في قطاع الأدب، بدافعٍ أهلي صرف، في حين تأتي الجمعية المهنية معبرةً - في هذه الحالة - عن دافع مؤسسي، وعن أهداف كبرى متصلة بالقطاع وتمثيله.
- الاختصاص، حيث تشير الإستراتيجية إلى أن الجمعيات المهنية «ستكوّن الروابطَ المهنية للمثقفين والفنانين السعوديين، وستتيح الفرص للمحترفين في هذه القطاعات لتنمية مهاراتهم، وبناء مبادراتهم، وتطوير الوعي، وتكوين آليات الدعم، وتشكيل نموذج اجتماعي جاذب لاحتراف الثقافة والفنون»، وهذا الاختصاص ليس مُنتظراً من المنظمات في المستويات الأربعة الأخرى.
- الدعم المباشر من الوزارة، ومن الواضح أنّ هذا الدعمَ يهدف إلى مساعدة الجمعية المهنية على تجاوز مرحلة التأسيس، واختصار الوقت والجهد اللازمين لتأمين متطلبات بناء جمعية قوية، قادرة على تمثيل القطاع في الداخل والخارج.
ما سبق يحدد لنا بوضوح موقع جمعية الأدب المهنية من بين مستويات القطاع غير الربحي الثقافي، فهي -أولاً- على رأس قطاع الأدب (وللرأس هنا رمزيةٌ لا تخفى)، وهي –ثانياً- معنيةٌ بالاحتراف في هذا القطاع ممارسةً وممارسين (ولا توجد جمعية أخرى تقاسمها هذا الاختصاص)، وهي -ثالثاً- مدعومةٌ من إستراتيجية الوزارة بهدف تحقيق مستهدفات نوعية وعاجلة، تناسب حجم القطاع وتاريخه، وهذه الثلاثة -مجتمعةً- تدلّ على أنّ الجمعية المهنية أكثرُ مستويات التصنيف اتصالاً بالخط الإستراتيجي الذي أشرتُ إليه في الفقرة السابقة، وأنها المستوى الذي يُراد له أن يكون نموذجاً لباقي مستويات التصنيف، من حيث الجودة والاحترافية والقدرة على تمثيل طموحات الرؤية في النشاط الأهلي.
هذا الموقع يجب أن يكون حاضراً في أذهان أعضاء الجمعية، ويجب أن يكون كذلك في تفاعلنا معها، بداية من احتفالنا بانطلاقتها وليس انتهاءً بالنقد الذي يمكن أن نوجّهه لاحقاً لأدائها، ويجب أن نجد هذا الموقع مفعّلاً في كل مبادرة، وكل برنامج، وكل مشروع، وكل سؤال وكل إجابة تتعلق بهذه الجمعية.
وإلا فسنجد أنفسنا – مع الأيام - أمام تكوين جديد لنشاط ثقافي قديم، بعيد عن الخط الإستراتيجي ومعالمه.
التوقعات: بناء على فهم (السياق) و(الموقع) يمكن أن نوزّع توقعاتنا لمخرجات جمعية الأدب المهنية على ثلاثة مسارات رئيسة: 1- بناء المنظّمة: وذلك بوضع خطة عمل مبتكرة، تهدف إلى بناء جمعية مهنية قادرة على أداء مهامها ذاتياً، وتمتاز بإدارة ثقافية نشطة، تعزّز استقلاليتها، وتفعّل دور جمعيتها العمومية، وتحمي مبادئ الحوكمة في ممارستها، وترفع مستوى وعي الأعضاء والممارسين بها، وتستفيد من حركة التفاعل المحيطة، وتتبنى آلية تواصل ذكية مع المنتمين إلى القطاع محلياً وعربياً وعالمياً، وتعمل على تأمين موارد مالية مستدامة، وتخلق فرصاً نوعية جاذبة للإسناد الحكومي، ومقنعة للقطاع الخاص والمستثمرين، وتعمل على التقارب والاشتباك مع المشاهد الأدبية النشطة في العالم، بما يضمن قدرتها على القيادة الذهنية للقطاع، وتحقيق (السبق الزمني) و(الدلالة) الممكِّنَين للرؤى التجديدية والتطوير.
2- الارتباط بالمستهدف التنموي، من خلال المحافظة على سياق الجمعية، والتأكيد الدائم (المُفعَّل) على ارتباطها بالرؤية وفضاءاتها، والتقارب مع الصورة المثالية للمنظمة الأهلية التي تطمح إليها الرؤية، والتي تتجلى في منظّمة ذات إسهام ملموس في التنمية، تمتلك قائمة من الخدمات النوعية للممارسين، والفرص الجاذبة لتطوع الأفراد ودعم القطاعين الحكومي والخاص، وقادرة على خلق أثر اجتماعي نوعي ودائم.
3- تنمية الاحتراف في هذا القطاع، وذلك بتفعيل البعد المهني في خطط الجمعية، وطرح مبادرات وبرامج ومشاريع خادمة للاحتراف في القطاع، بداية بتحديد المصطلحات والمفاهيم المرجعية المرتبطة بالممارسة الأدبية، وتطوير منظومة المعايير المرتبطة بتصنيفها، وبناء قاعدة بيانات للمحترفين في قطاع الأدب السعودي، وقاعدة للشركاء وأصحاب المصلحة، وابتكار محفظة للخدمات الفنية والاجتماعية التي يحتاجها المحترفون في هذا القطاع، وطرح مسارات لدعم انتشار المنتج الأدبي السعودي في الداخل والخارج (الطباعة، النشر، الترجمة، الترشح والترشيح للجوائز الدولية، تسجيل المنتج الأدبي في المكتبات العامة والأكاديمية العالمية، تنظيم أيام خاصة بالأدب السعودي في المؤسسات الأكاديمية والثقافية الرائدة في العالم، دعم تحويل الروايات إلى أفلام سينمائية.
إلخ)، والاستفادة من المبادرات والبرامج الثقافية الكبرى لصالح المحترفين في القطاع (كصندوق التنمية، والتفرغ الثقافي، وترجم، وغيرها)، وتقديم مشاريع لتحديث الأنظمة ذات الصلة بما يخدم الحركة الأدبية والأدباء، إضافة إلى تنشيط الحركة النقدية المحلية، وتصميم ملتقيات نقدية برؤية جديدة، تتجاوز القراءات التعريفية والاحتفالية إلى تمثّل المناهج والمنهجيات والنظريات الجديدة، ومحاورتها وإثرائها.
إلى آخر الرؤى والأفكار التي تصبّ في خدمة الممارسة الأدبية المحترفة.
وأخيراً نحن اليوم أمام فرصة كبيرة في القطاع الثقافي بوجهٍ عام، والأدبي منه بوجهٍ خاص، وأمام إرادة حقيقية، ودعمٍ غير مسبوق في السخاء والذكاء والمرونة، الأمر الذي يجعل المسؤولية كبيرة على مسؤولي المنظمات الجديدة الحكومية وغير الربحية، ومنها جمعية الأدب المهنية، وأظن أنّ البداية التي شَهِدناها مع انطلاقة الجمعية بحاجة إلى مراجعة جادة، تنقل الخطوة الأولى إلى الطريق الصحيح، وتجعل الانطلاقة من (المبُْتكَر) لا (المكرّر)، ومن (الجديد) لا (المجدَّد)، ومن (العميق) لا (السطحي)، والمنتظر من الزملاء في الجمعية كبيرٌ، بحجم ما نعرفه جميعاً من خبراتهم وإخلاصهم وطموحاتهم.
** **
- د. خالد الرفاعي