البرتو مانغويل
الحضارة ... كلمات وعماره
عندما أراد الله مخاطبة عبيده ...
أنزل لهم كتباً ...
يوماً بعد يوم، كتابٌ بعد كتاب، سطرٌ بعد سطر، كلمةٌ خلف كلمة، يثبت مانغويل إنه قارئ من طراز نادر، وكاتب من طراز رائع. فهو مؤلف ذو ثقافة خطيرة تتماشى مع العقائد والأفكار الدينية لدى الشعوب. فالحكمة يأخذها من أي طرف أنّى وجدها وهو أولى بها. يتميز أسلوبه بالدمج بين الكتابة الوصفية والمعلوماتية، يربط حضارات الإنسان عبر الزمان والمكان. يبدأ مواضيعه، بصور فنية كقصة قصيرة مكتملة الأركان. ومع ذلك يعيبه السرد الطويل وذكره معلومات أحياناً لا داعي لذكرها، فتطغى المعلومة على الفكرة وتضيع الفكرة في زخم المعلومات التي يذكرها.
يتحدث عن متعة الكتابة وسحر الكلمات، مشيراً إلى إجابة الفريد دوبلن الروائي الألماني عن السبب الذي يدفعه للكتابة أجاب: «لا يستهويني الكتاب المنتهي، بل الكتاب الذي في طور الكتابة، الكتاب الذي سيأتي»، وقد أتفق معه في شيء مما يقول، فالكاتب أحياناً يكتب من أجل فكرة تأتي في الطريق، تراها من بعيد ولا تكاد تلمسها، مثل السراب كلما اقتربنا منها ابتعدت، ومثل النبتة كلما أسقيناها كبرت، هي فكرة تتشكل وتنمو، تكبر وتصغر، تزحف وتنطلق، ولكن لم تتكون بعد، قد تنتهي الكتابة، وينتهي شغفها ولا تنتهي الفكرة.
يقول عن الكتابة القصصية: «إن كل قصة هي مثلث مكون من هذه الروابط: المؤلف والقارئ، القارئ والبطل، البطل والمؤلف»، جميلة هذه التثليثة، هناك علاقة يشكّلها المؤلف مع القارئ، وتنتقل من القارئ إلى البطل، ثم تعود من البطل إلى المؤلف، وأعتقد أن هذا أمر يحدث أثناء الكتابة القصصية، حيث يصبح البطل هو من يقود القصة، وليس المؤلف، حينما تفلت الرواية من مؤلفها يلتقطها البطل وينسجها من وحي خياله، وكأن البطل يرويها والمؤلف يكتبها.
يتحدث عن قصة جلجامش وفكرة الخلود. والتي تتلخص قصتها بوجود جلجامش الضخم الوسيم، والمتقد والكامل، ثلثاه إله، وثلثه بشر، مستبد يضطهد الرجال، يسيء استخدام سلطته، ويغتصب النساء، لم يحتمل أهل المدينة حكمه، فدعوا الآلهة أن يخلصهم منه، فتخلق الآلهة إنكيدو والرجل البري الذي يبدو انعكاسا لجلجامش في الحياة، وذلك لتحويل جلجامش إلى رجل عادل!
يلتقي الرجلان فيتصارعان صراعاً شديداً ينتصر فيه جلجامش إلا أنه في نفس الوقت يُعجب بإنيكدو فتتكون صداقة بين الإثنين ويتقاسمان الأخطار سويا ليقتلا الوحش همبابا، وتقع الآلهة عشتار في حب جلجامش وتطلبه لها، فيرفض جلجامش هذا الطلب فترسل الإله من يقتل الصديقين إلا أنهما ينتصران عليه، في النهاية تغضب الآلهة فتقرر قتل إنكيدو. يتحدث كلاهما عن الصلة العميقة بين تشييد مدينة من الجدران، وتشييد مدينة من الكلمات. جلجامش يعاني، ولكن مدينة أوروك تزدهر، والقصة تخلد.
أخيراً ...
سر الخلود الكلمات والجدران النصوص والمباني، العبارات والعمران (الملحمة، والمدينة).
ما بعد أخيراً ...
الكلمة والقراءة هما أساس الحضارة الإنسانية ... {ن والقلم وما يسطرون} ...
** **
- خالد الذييب