في ليلة أدبية شتوية كل ما فيها يسر ويطرب ويدفئِ دار النقاش مع أصدقاء الأدب عن جماليات الشعر وفتنته!
قصائد تذوب رِقّة، وقصص وحكايات كلها سرور ومتعة!
ثم انتقل الحديث عن أغزل بيت، وأمدح بيت، وأفخر بيت، وأرثى بيت، وأوصف بيت، وأهجى بيت وبعد أن ذكر الأصدقاء، اختياراتهم المليحة وتعليلاتهم الذكية، التفتَ إليَّ مُضيفنا، فقال:
مالك صامت يا أباعبدالله، أم تشحن؟!
فقلت: أذكر الله، فأنا مستمتع بكل بيت طرحه الزملاء…
فقال: يا أباعبدالله، أعطنا غير هذا الكلام…
فقلت: أخشى إن طرحت رأيي من مجلسك، ففيه شعراء وأدباء لا قِبَل لي بهم، وأنا رجل ضعيف يبحث عن الستر والسلامة خصوصًا بعد أن تقدمت سني، ورقَّ عظمي، فقلت ضاحكًا:
إلا أن تعطوني الأمان؟
فقالوا وهم يضحكون: نعطيك نعطيك!
فقلت مستعينًا بالله:
تعلمون أنَّ الأذواق تختلف وتتباين، فكبار النقاد قديمًا وحديثًا اختلفوا في هذه المسألة!
وإن كان هناك معايير ثابتة في الشعر والأدب، ولكن في الحُسن والجمال تبقى المعايير نسبية، وقد تدخل معايير جديدة على البيت، فتجعل البيت الذي أذهل النقاد، وسارت به الركبان بيتًا باهتًا، مثل قول جرير:
إِنَّ العيونَ التي في طرفِها حورٌ
قتلننا ثم لم يحيينَ قتلانا
بالرغم من رقة هذا البيت، وجماله، إلا أنَّه أُستُهلكْ ولاكته الألسن، فأصبح بيتًا شعريًا ممقوتًا، لكثرة طرقه، بعد أن كان من عيون الشعرالعربي!
فقاطعني أحد الزملاء الذين سحرهم جريرٌ، فقال:
الذهب يبقى ذهبًا!
فقلتُ: كل الذين يحبون جريرً او يتعصبون لا يُلامون، فحبهم له ناتج عن عطف وشفقة، بعد أن عرفوا نشأته الفقيرة، ووالده الذي كان من أبخل الناس في عصره، لدرجة أنه إذا أراد حليبًا من الماعز الذي عنده فإنه يرضع من ضرعها مباشرة، حتى لا يسمع أحدٌ صوت الحلب!
وأنا والله من المحبين لجرير، لأنه قاتَل وجَالد وحارب أكثر من ستين شاعرًا، فصرعهم، إلى جاء الفرزدق والأخطل فخَرَّ صريعًا أمامهما أكثر من مرة مع الأسف!
ولكن بعض مؤرخي الأدب تعاطفوا كثيرًا مع جرير، ولذلك لم يذكروا لنا خسائر جرير الشعرية!
فقال مضيفنا: يا أبا عبدالله، أكمل فكرتك!
فقلت أذكر أيام الطلب في قسم اللغة العربية بكلية الآداب
سقاها الله، ورفع منزلتها أنَّ أستاذنا الدكتور عبد قلقيلة، أستاذ النقد الأدبي- غفرالله له حيًا أوميتًا- عندما بدأ معنا في أول محاضرة في مادة (دراسة شاعر) قال لنا إنَّ المقرر المعتمد في هذه المادة هو: دراسة ديوان المتنبي، ولكن لأنكم تعرفون المتنبي ولأنكم شبعتم منه، فسندرس حياة شاعر أكثركم لا يعرفه، ولايعرف شعره، فقلنا من هو:
فقل: ابن المقرب العيوني.
فتعرفنا على شاعر كبير لم نك نعرفه، وحفظنا بعض قصائده، وعرفنا خصائص شعره، وتذوقناه فاستطعمنا شعرًا رقيقًا عذبًا لشاعركبير ماكنا نعرفه!
فقال مُضيفنا:
يا اباعبدالله، كلامك جميل الآن أعطنا أهجى بيت مرَّ بك، ولماذا؟
- سأعطيكم أفجر بيت عرفته العرب في الهجاء!
هو قول الأخطل يهجو جريرًا:
قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبهُمُ
قالوا لأمّهِمِ: بُولي على النّارِ
فالأخطل يهجو جريرًا وقومه بأرذل صفة عرفتها العرب، وهي: البخل!
ثم إنَّ هذا البيت مثل القنبلة العنقودية التي قتلت جريرًا وبعض قومه، وأحرقت وقطَّعت بقية قومه!
فهو يقول:
1-إن كلبهم لم يتعود على النباح، ولا ينبح إلا إذا استنبحه أحد
أي أنَّ كلبهم بخيل في نباحه!
2- يطفئون النار، حتى لا يستدل عليهم الضيوف.
3-إنهم عاقون بأمهم فهم يأمرونها بالرغم من كِبر سِنها!
4- إنهم يبتذلون أمهم، وكشف عورتها!
5- إنهم (قعيطية) لذلك ليس عندهم خادم يخدمهم، أو خادمة تخدم أمهم!
6- إنَّ نارهم صغيرة، تطفئها بولة عجوز، وبولة العجوز أقل من بولة الشابة، أكرمكم الله.
وفي البيت الذي يليه:
فتمسكُ البولَ بخلاً أن تجود به
ولا تبول لهم إلا بمقدار
جعل أمهم أبخل منهم وألأم، فهي لا تبول لهم إلا بمقدار يعني ما (تبي خساير!)
فقال أنصار الجرير:
والله لو ما عطيناك الأمان، لحرمناك من العشاء والحلا والزنجبيل!
فقلت: إلا الحلا!
** **
- راشد بن محمد الشعلان