من القصص الشعبية الأمريكية، قصة (هيو غلاس)، وهي من القصص المثيرة والملهمة جداً، وهو رجل واجه أخطار مميته، ونجا منها، أهم هذه الأخطار هو نجاته من الموت المحقق من أنياب الدب الأشيب أو الرمادي الضخم.
تم تمثيل قصة (غلاس) في فيلمين، فيلم: رجل في البرية. وفيلم: العائد من الموت، الذي نحن بصدده. وتم تأليف رواية عام 2002 وهي باسم العائد.
(هيو غلاس) صائد فراء قنادس، انضم إلى حملة لصيد القنادس، وبينما هم في معسكر وسط الغابة، هجم عليهم الهنود الحمر، وقتلوا كثيراً من رجال الحملة، فهرب (غلاس) إلى مكان بعيد، ودخل في وكر لأنثى الدب الأشيب مع دياسمها، فهجمت عليه فمزقت جسده، وكسرت يده، وثقبت حنجرته بأنيابها، فمن خلال صراخ (غلاس) أتى رفاقه إليه، وتمكنوا من قتل الدببة، وهو في حالة يُرْثَى لها، وكان لا يستطيع النظر بوضوح، ولا الكلام ولا الحركة، تيقنوا أنه سوف يموت في الصباح، على أحسن تقدير.
قرر رئيس حملة الصيد، ترك غلاس في المكان الذي عجزوا فيه عن حمله، فطلب من رجلين (فيتزجيرالد، فوق الثلاثين من العمر) ومراهق هو (بريدجر، تحت العشرين) البقاء معه حتى يموت، ويقومون بدفنه على نحو لائق.
وبعد ثلاثة أيام من رعايتهم له، استشعر (فيتزجيرالد) بالخوف من الهنود الحمر، فقام الاثنان بوضعه في قبر طيني، فاخذوا بندقيته وسكينه وبقية أغراضه، وتركاه وحيداً في الغابة. لما لحقوا برجال الحملة، ادعيا أن غلاس مات ودفنوه.
شخصية غلاس
هي شخصية واضحة وبسيطة، وتتسم بالشكيمة والقوة، والإصرار على بلوغ الهدف، والسعي وراءه. ما يعني أنه ليس هنالك تعقيد، ولا غموض يذكر في شخصيته، إلا أن الشيء الخفي فيها هو تشبثه بالحياة ومقاومة الموت، وهو شيء استثنائي، في شخصيته.
قاوم الموت وتحمل آلم جروحه، رغبة منه بالحياة ورغبة في الانتقام من الأشخاص الذين غدروا به، وخذلوه، وتركوه يواجه مصيره، في الغابة المقطوعة والموحشة وحيداً.
هذه قصة (هيو غلاس) باختصار.
والآن؛ الحدث الرئيسي في القصة الأصلية هو: هجوم الدب على (هيو غلاس).
والحدث الثاني، والذي يليه، هو لما تركه (فيتزجيرالد) في الغابة، يواجه مصيره المحتوم.
هذان الحدثان، هما أهم الأحداث في القصة الأصلية.
هيو غلاس في السيناريو
كاتبا السيناريو، ارتأيا أن مطاردة غلاس للانتقام من (فيتزجيرالد) بسبب تركه في الغابة وحيداً «غير مثير» بما يكفي للمشاهد. فقررا خلق وابتكار «خط درامي» جديد، وأضافاه إلى السيناريو، حتى يكون أكثر إثارة وإقناعاً للمشاهدين.
فخلقا شخصية جديدة هو «هوك» يكون ابن (هيو غلاس)، ويكون من أم هندية، يقوم (فيتزجيرالد) بقتله، أثناء مكوثهم مع (غلاس) بعد هجوم الدب عليه.
جعلا مطاردة (غلاس) لـ(فيتزجيرالد) ليس لأنه خذله، وغدر به وتركه في الغابة وحيداً مع جراحه المميتة، بل لأنه «قتل» ابنه (هوك)!.
فصار ترتيب الأحداث في السيناريو، مختلفاً اختلافاً جذرياً، عن ترتيب الأحداث في القصة الأصلية. فالحدث الرئيسي في «القصة الأصلية» هو: هجوم الدب على غلاس.
فتحول الحدث الرئيسي في السيناريو إلى حدث ثانٍ، في الأهمية، وليس بالترتيب.
فصار حدث قتل (هوك) هو الحدث الرئيس في السيناريو والفيلم.
فيكون سعي غلاس للانتقام ومطاردة (فيتزجيرالد) ذا إثارة قصصية وملحمية في الفيلم.
شخصية فيتزجرالد في القصة الأصلية:
لا تتضمن قصة (غلاس) أي وصف أو إشارة إلى شخصية (فيتزجرالد) في كل الكتابات واليوتيوبات التي اطلعت عليها.
دور (فيتزجرالد) في القصة الأصلية، هو أنه كان زميلاً لـ(غلاس) في حملة صيد القنادس، وليس بينهم أي مشكلات أو عداوة مع بعضهم في الواقع، ما يعني أن علاقة (غلاس) مع (فيتزجرالد) علاقة عمل وزمالة عادية.
شخصية فيتزجيرالد في السيناريو
من خلال المعطيات البسيطة والمحدودة، عن شخصية (فيتزجيرالد) في القصة الأصلية، فإنه تم بناؤها بناءً محكماً ومحترفاً ومعقداً جداً، من قبل كاتِبَي السيناريو.
كاتبا السيناريو دفعا بشخصية (فيتزجيرالد) إلى الأمام، مما جعلها ذات أهمية كبيرة جداً ومفصلية في أحداث الفيلم.
وللتمهيد للحدث الذروة أو الرئيسي، وهو حادثة قتل (هوك)، كاتبا السيناريو خلقا مشكلة مبدئية، ما بين غلاس وجيرالد، قبل حادثة الدب، ذلك أن (فيتزجرالد) يحارش (غلاس) ويتعرض لابنه (هوك)، ويعايره فيه أنه ابن هندية، كذلك سأل غلاس: هل قتلت كابتناً في الجيش، حتى يثيره ويشكك بسلوكه.
أول ظهور لـ(فيتزجرالد) على الشاشة، هو أنه إنسان متذمر لا يعجبه شيء.
عادة المتذمر «يفكر» بصوت عالٍ، وهذا يتضح من كلامه، والذين يفكرون بصوت عالٍ، هم الفلاسفة وعلماء الاجتماع، بعكس من يفكرون بصوت خافت وبالخفاء وفي الأمكنة المتوارية، وهم رجال السياسة ورجال الدين.
أما في في حالة (فيتزجيرالد) فإن تفكيره بصوت عالٍ، لأنه يعلن عن نفسه أنه موجود، ولديه «رأي» يتعين الإنصات إليه، ومثل هذا هم من يريدون أن يلفتوا نظر الآخرين إليهم.
في مسألة تعقيد الشخصية، على سبيل الاستئناس، هناك شخصية (نامق) في مسلسل عدنان ولينا، ويأتي بعده بدرجة أقل عبسي، بينما عدنان ولينا، ليس لدى شخصيتهما تعقيدات تذكر، بل على العكس شخصيتهما كما هي أهدافهما واضحة جداً.
نلاحظ في بعض الأفلام -والروايات أيضاً- أن شخصية البطل واضحة في أهدافه وسلوكه، ويكاد يكون خالياً من التعقيدات.
بينما الشخصية المضادة للبطل، عادة ما يكون الشرير الذي يحيك المؤامرات ضد البطل.
على أنه هنالك شخصيات درامية، وروائية ومسرحية أيضاً، ليست شريرة إلى هذا الحد من الشر، لكنها تعيق البطل في مسيرته نحو تحقيق هدفه، تماماً مثل شخصية نامق، وهي شخصية محورة جداً، وظهورها على الشاشة مستمر.
بمناسبة ذكر مسلسل عدنان ولينا، فهذا المسلسل مقتبس من رواية (المد الهائل) للكاتب الأمريكي الكسندر كي.
وبهذه المقالة تنتهي مقالاتي عن «العائد» The Revenant .
** **
سليمان البطي - ناقد وكاتب سيناريو