كانت أولى مراحل نهوض ألمانيا بعد الحرب، بداية ثورة أدبية تمحو كل ما يتعلق بالنازية. وقد أُطلق على هذه الثورة الأدبية: (أدب ما بعد الحرب 1967 – 1945 Nachkriegsliteratur). وبالتزامن مع حقبة الأدب الألمانية وعمليات التصحيح في البلاد، بدأت عملية (اجثاث النازية Entnazifizierung)، بحيث وجد الكتاب الألمان المناصرون للنازية والداعمون للمحرقة أنفسهم محاسبين عن أعمالهم الأدبية. فمجموعة منهم منعوا من الكتابة، ومجموعة أخرى منعوا من النشر إلى الأبد، في حين أن مجموعة منهم استطاعوا إنقاذ أنفسهم والحفاظ على مهنتهم (الكتابة). ثم ظهر أدب ما بعد الحرب في ألمانيا، وكان له ثلاثة تيارات: (أدب الأنقاض - Trümmerliteratur)، و(أدب ألمانيا الديموقراطية – DDR)، و(أدب جمهورية ألمانيا الاتحادية – BRD). وكان أول هذه التيارات، ولعله أهمها، أدب الأنقاض، لكونه نقطة البداية لهذه الثورة الأدبية الضخمة. إن تسميته بأدب الأنقاض لا تشير إلى ركام المباني فحسب، وإنما فيه وصف للحرب ولحياة الناس ونفسياتهم المحطمة أيضا. ومن أهم إسهامات حقبة أدب ما بعد الحرب، ظهور المجلة الأدبية (السمعة Der Ruf) في ميونخ، عام 1946، التي كانت تهدف إلى تنوير وتثقيف المجتمع الألماني حول النظام الديموقراطي بعد دكتاتورية هتلر، وتحفيز الجيل الصاعد وبث روح الأمل فيه. وثاني أهم إسهامات هذه الحقبة هو تأسيس أهم مجموعة أدبية ألمانية: «مجموعة 47 – Die Gruppe 47» على يد المؤسس «هانس فيرنير». ومن أبرز ملامح أدب الأنقاض، أنه أدب قام في أساسه على التصوير الواقعي والدقيق لما جرّت عليهم الحرب من أهوال ومآس. ومن خصائصه أيضا خلوه من التعبير عن المشاعر والعواطف، وابتعاد كتّابه عن جمالية الإنشاء تماما، لقناعة مؤلفي هذه الحقبة بأن من هو مهتم بالمنتج الأدبي، سيقرأه بغض النظر عن هيئته. ومن أهم ممثلي أدب هذه الحقبة هم «هاينريش بول Heinrich Bll، فولفغانغ بورشرت Wolfgang Borchert ، هانس فيرنر Hans Werner».
والجدير بالذكر هو أن هذا الأدب لم يقتصر على النثر بأجناسه المختلفة فحسب، وإنما شمل الشعر أيضا. من أهم دوافع هذه الحركة الأدبية، إلى جانب الدوافع التقليدية الأخرى، شعور العديد من الألمان بالذنب والإهانة من جرّاء ما حل عليهم بسبب أفعال النازية، وبذلك فقد رغبوا وبشدة تكوين هوية جديدة وطي صفحة الماضي، وكثيرا ما نوقشت هذه المسألة في أدبيات ما بعد الحرب. وإذا ما نظرنا في كتّاب هذه الحقبة، فسنجد بأن معظمهم كانوا من الشباب، وأن العديد منهم قد كانوا جنودا في الحرب، مثل فولفغانغ بورشرت، وعند سقوط الحكم النازي وهزيمة ألمانيا في الحرب بدأوا بمراجعة أنفسهم وتحديد موقفهم من الحرب. وعند النظر في الأعمال الأدبية التي كتبت في هذه الحقبة يتضح بأن العديد من كتّابها لم يكن لديهم خبرة كتابية كافية. وذلك لكونهم مجرد جنود هدفهم من الكتابة في الأساس تصوير الحرب ووصف المعاناة. ولوصف معاناتهم وتصوير الدمار الذي حل بهم وجب عليهم الكتابة بإيجاز، والابتعاد بذلك عن السرد الطويل. فمن هنا سار ممثلو أدب هذه الحقبة على نهج القصص القصيرة الأمريكية بأسلوبها البسيط عوضا عن السرديات الطويلة (الرواية)، لكونهم -كما سبق- يريدون وصف أهوال الحرب ونقل الحقائق وليس اختلاق القصص من ناحية، ولكون الناس ليس لديهم وقت للقراءة من الأساس، من ناحية أخرى. ركّز أدبهم على طرح ومناقشة الموضوعات التالية: النقل الدقيق للواقع، ووصف المدن المدمرة التي أدى تدميرها إلى تشرد الناس وفقدهم منازلهم وممتلكاتهم وقيمهم، كما تناولت مسألة الشعور بالذنب في الحرب والمحرقة، والبحث عن هوية ذاتية جديدة أيضا. ولعل من أهم من كانوا يتعاملون مع مسؤولية الحرب والبحث عن هوية جديدة في أدبياتهم: «غونتر غراس Günter Gra»، «هاينريش بول Heinrich Bll «، «فولفغانغ بورشيرت Wolfgang Borchert». ومن بعض أهم الأعمال المؤثرة لرواد حقبة الأنقاض: القصة القصيرة لبورشيرت «الخبز، Das Brot»، ومسرحية هاينريش بول «الرجل ذو السكاكين، Der Mann mit den Messern». وبالنسبة للغة أدب هذه الحقبة، نرى بأنه لم يكن أدبا عنصريًا، ولم يتّبع مبدأ النازية في أساليب الكتابة، ولم يعد يشاد بالجنود الألمان كأبطال، وإنما أرادوا الكتابة بأساليب محايدة وبسيطة مستخدمين التكرار والحذف. ثم إن من أهم أهدافهم في حقل اللغة، السعي في تطهير اللغة الألمانية من المفردات النازية، إذ لا ينبغي أبدًا اسخدام كلمات مثل الصفات (قومي vlkisch) أو (آري Aris) أو مفردات مثل (الحل النهائي Endlsung) أو (النصر النهائي Endsieg). وبإلقاء نظرة سريعة على مدى تأثر الشعر في هذه الحقبة، فإننا نرى بأن القصائد فقدت هيئتها، وأصبحت تكتب بلا قوافٍ، وبدت أكثر تع قيدا وصعوبة في الفهم. ثم إن كتابتهم بهذه الطريقة تعود لكون الغاية ليست جمالية، كما أسلفنا. وخير مثال هلى ذلك، قصيدة Inventur»» للكاتب «غونتر آيش، Günter Eich». ولتحقيق مطالب النهضة والتجديد، فإن هذه الثورة الكتابية لم تقم على المستوى الفردي، وإنما قامت على مبدأ الاتحاد. ومن هنا نجد بأن خلف هذا التصحيح الكبير والحراك الأدبي الضخم في هذه الحقبة: مجموعة 47؛ التي كان لها الدور الأكبر في نهضة البلاد مجددا وتشكيل سياته الجديدة في فترة ما بعد الحرب، إلى أن حُلت المجموعة عام 1967. لم تكن تهدف في تجديد الأدب الألماني والسعي في إعادة روح الأمل في الجيل الصاعد، وتغيير ذهنية الألمان من سطوة الأيدولوجية النازية فحسب، وإنما أرادت أيضا، وبكل جديّة، التأثير في تشكيل السياسة الألمانية الجديدة، بأخذها الأدب وسيلة لتحقيق هذه الغاية. ضمّت هذه المجموعة جل أعمدة الأدب الألماني -إن صح القول- الذين كان لهم الأثر الأكبر في حقبة أدب ما بعد الحرب، وكانت فاعلة حتى بعد موت أدب الأنقاض وبدء التيارين الأدبيين الآخرين عند تقسيم ألمانيا إلى شرقية وغربية في عام 1949.
** **
- مشعل صالح الغامدي