يعتبر الفيلسوف الألماني الشهير إيمانويل كانط من أشهر مفكري أوروبا في العصر الحديث، فقد اعتزل الناس ومجتمعه وآثر الوحدة ليتفرغ للبحث والتدقيق والتأمل حتى أصبح الشخص الذي زلزل قوائم الفكر الأوروبي وثقافته السائدة لدرجة أن كثيرين من المهتمين بأمور الفلسفة والحضارة يعدونه شرارة الانطلاق الحضاري الأوروبي الحديث بفضل أفكاره الحاسمة في نظرية العقل النقدي، وتأتي أهمية فلسفته من عدة جوانب فكرية سنناقشها في هذا المقال.
لقد كان أهالي كونسبرج يحبون كانط ويرون فيه مثالاً للطيبة والشفقة والأخلاق الحميدة والسامية، ولم يأخذوا عنه إلا ضبطتهم لساعاتهم عندما يرونه يخرج من داره للتنزه عصراً فيتأكدون أن الساعة قد بلغت الرابعة والنصف، ولو أنهم كانوا يعلمون ما سيصنعه كانط في فكر وعقل أوروبا كلها لارتاعوا – كما يقول هيني – من وجود هذا الرجل العظيم والخطر بين ظهرانيهم.
فقد كان أهالي بلدته ( كونسبرج ) يتوقعون كل شيء إلا أن يخرج هذا الأستاذ الهادئ المتواضع نظاماً جديداً تهتز له أوروبا والعالم أجمع وإذا أردنا أن نتحدث عن سيرته الذاتية فإننا لا نجد له أي سيرة بالمعنى الدارج كما يقول الأستاذ عباس العقاد لأن حياة العزلة التي فرضها على نفسه وسط برنامج يومي دقيق جعله مثل الآلة التي لا تعرف التغيير، ولكنه آلة عظيمة بلا شك، وهذه الآلة تعمل بدقة متناهية كسائر الآلات فهو يصحو من نومه في الساعة الخامسة صباحاً بالتمام والكمال ثم يتناول قدحه من القهوة ثم يعمل في القراءة وتحضير محاضرته في الجامعة ما يقارب الساعتين ثم يلقي محاضرته، وبعد ذلك يعود إلى مكتبه فلا يفارقه حتى الساعة الواحدة بعد الظهر، ثم يستعد للغداء فيقضي على المائدة ساعتين مع رفاقه وأصحابه، ثم يخرج في حوالي الرابعة والنصف من منزله لممارسة رياضته المعهودة ( رياضة المشي ) ويقال إن الناس حينها كانوا يضبطون ساعاتهم إذا رأوا كانط يخرج من منزله لأنهم يعلمون أن الساعة الآن قد بلغت الرابعة والنصف تماماً، وهنا ينبغي الحديث عن رياضة المشي كونها القاسم المشترك بين معظم الفلاسفة والكتاب والمفكرين والعظماء عموماً.
أما سر هذه الدقة في التعامل مع الوقت فيقال إنها تعود إلى رجل إنجليزي والإنجليز معروفون بالدقة كما هو معهود عنهم، فيقال إنه ذات يوم وبينما كانط يتمشى في إحدى الحدائق العامة فلقي جماعة من أصحابه هناك فوقف يحادثهم، واستطرد به الحديث إلى الخلاف الذي كان قائماً في ذلك الحين بين إنجلترا وأمريكا فاشتد كانط في مؤازرة الأمريكيين فما راعه إلا أحد الواقفين أمامه يقول له: إني إنجليزي وإنك بكلامك هذا قد أسأت إليّ وإلى بلدي بريطانيا، وإني أطالبك للمبارزة حتى أقتلك, فلم يكترث الفيلسوف بكلامه وذهب يشرح رأيه ويفصل الأسباب التي دعته إلى مظاهرة الأمريكيين ويقول إنه ينصر الحق الذي يجب على كل إنسان – وطنياً كان أو غير وطني – أن ينصره، واسترسل كانط في هذا البيان بحججه وبراهينه كل ذلك بفصاحة أخاذة وبلاغة بارعة أدهشت الرجل الإنجليزي لدرجة أنه اعتذر منه ودعاه إلى منزله وتحول هذا الموقف بهما إلى صداقة حميمة.
كان هذا الرجل الإنجليزي من الطراز الذي اشتهر في القرن التاسع عشر بالدقة المفرطة في ترتيب الوقت والشدة البالغة في احترام كلامه وعهوده، ومن نوادره مع كانط أنهما تواعدا مرة على الركوب في الساعة الثامنة للنزهة، فما جاءت الساعة الثامنة إلا ربعاً حتى كان الإنجليزي – ويدعى جرين – مستعداً في غرفته والساعة بيده، فلما بقي من الموعد عشر دقائق لبس قبعته، فلما بقيت خمس دقائق تناول عصاه، فلما دقت ساعة الحائط الدقة الأولى فتح باب المركبة وانطلق في طريقه ولم يبعد غير يسير حتى لقي كانط قادماً في الطريق، ولكنه لم يقف ليأخذه معه لأنه تأخر عن موعده دقيقتين، غضب كانط من زميله جرين لأنه لم ينتظره بينما سخر منه جرين لأنه لا يعرف احترام الوقت وبعد هذه الأقصوصة تحولت حياة كانط إلى ساعة دقيقة ضرب بها المثل في الدقة والرتابة.
ولد كانط بمدينة كونجسبرج في يوم 22 إبريل من سنة 1724م، وكان رابع أولاد أبيه، ماتت أمه وهو في الثالثة عشرة من عمره، وقد نشأ كانط نشأة دينية محضة فأدخله أبوه الجامعة ليتلقى دروس الكهانة ولكنه حينها تولع في كتب الفلسفة والرياضيات، وهنا نتوقف قليلاً حول هذه الملاحظة، فكثير من الفلاسفة والمفكرين في أوروبا كانت نشأتهم الأولى دينية بحتة، وقد خرجوا كمفكرين من العباءة الدينية سواءً المسيحية أو اليهودية، وهذه نقطة تحتاج إلى بحث ودراسة، وهكذا كان اتجاه أعظم الفلاسفة المحدثين مصادفة واتفاقاً، ثم اضطرته الفاقة والعوز إلى طلب الرزق من صناعة التعليم فاشتغل بتربية الأبناء الموسرين مع مثابرته على التحصيل في الجامعة حتى جاز امتحان الأستاذية في سنة 1755م أي في الثالثة والثلاثين من عمره، بعدها شرع كانط في إلقاء محاضراته في الرياضيات والطبيعيات والفلسفة عشر سنوات، وكان الطلبة حينها مفتونين بفصاحته وبلاغته أثناء إلقائه لدروسه الفلسفية لدرجة أن هردر الأديب الألماني الشهير – وكان أحد تلاميذه – نظم إحدى محاضراته شعراً لما استحوذ على نفسه من بيانها وسحر معانيها فكافأه الأستاذ على ذلك بإلقاء المحاضرة المنظومة على زملائه الطلبة قبل البدء في محاضرته الجديدة، وتقول بعض المصادر إن طلبة كليات الأقسام الأخرى كانوا يتهربون من محاضراتهم ويذهبون إلى محاضرة كانط، وكان بعضهم لا يجد مقعداً للجلوس فيضطر أن يستمع للمحاضرة وهو واقف، وفي هذا دلالة على المكانة العلمية والفكرية الرفيعة التي وصل إليها كانط في زمانه.
كتب كانط كتبه بلغة صعبة وجافة تستعصي على النخبة فهمها فضلاً عن العامة، أما محاضراته وخطبه فكانت - كما قلنا من قبل إنها - على النقيض من كتبه، فقد كان تلاميذه ورواده يسمعونه بليغاً خلاباً وفصيحاً بارعاً في محاضراته، وكان الطلاب يبكرون ساعة قبل موعد درسه لازدحام القاعة وشدة الإقبال على سماعه، واشتهر اسمه في ألمانيا فاستدعته جامعة ارلنجن حينها لتدريس المنطق وما وراء الطبيعة، كما طلبته جامعة جينا أيضاً لمثل هذا الكرسي ولكنه فضل جامعة بلدته كونجسبرغ، فعين له مرتب ستين جنيهاً في السنة عدا مصاريف المحاضرات في 20 أغسطس 1770م، لم يبلغ فيلسوف حديث في حياته ما بلغه كانط من بعد الصيت وعلو المنزلة وحب الناس له وسعيهم إلى لقائه من كل صوب على تعذر المواصلات في ذلك العهد، حتى أن طبيباً روسياً خلع معطفه وصداره على خادم الفيلسوف لأنه مكنه من مقابلته في أواخر أيامه وأعطاه مسودة مصححة من بعض كتبه.
وبعد أن استعرضنا أهم ما في سيرة هذا الفيلسوف العظيم من النشأة والمكانة ننتقل إلى أهم إنجازاته الفكرية، ويأتي كتابه الشهير والصعب نقد العقل الخالص، من أهم إنجازاته الفكرية والذي أودعه خلاصة فلسفته وآرائه التي يقال إنها كانت محطة فاصلة في تاريخ أوروبا الحديث، فلقد أعاد الإيمان بالله تعالى والحس الديني إلى نفوس الأوروبيين بعد أن تفشى الإلحاد بشكل رهيب بين الشعوب الأوروبية حتى بين القساوسة والرهبان في الكنائس، وكان يقول إن الفضل في ذلك يعود إلى المفكر الفرنسي جان جاك روسو، والذي يعده كثير من النقاد مفكراً متوسط القيمة ولا يعطونه أهمية مقارنة بقرينه ومعاصره فولتير، لكن يحسب لروسو أنه وقف وحده مؤمناً في زمنه حيث دعا للعودة إلى الفطرة الإنسانية وترك الملوثات الحضارية التي أفسدت أخلاق أوروبا، ويقول كانط إن أفكار روسو هي التي ألهمته تجاه الإيمان، فكانت آراء كانط قطعية تجاه العقل البشري وإمكانياته، وأن قدرات العقل الهائلة لا تستطيع أن تصل إلى ما وراء الطبيعة، وهنا وضع كانط حداً فاصلاً للميتافيزيقيا والخرافات الدينية التي كانت منتشرة بين الناس تجاه ما وراء الطبيعة، وأطلق عبارته الشهيرة حينما يتوقف العلم والعقل يبدأ الإيمان.
الأمر الثاني هو تأسيسه للنظام الأخلاقي الصارم القائم على فكرة الواجب والتفكير بالمصلحة العامة باستمرار، فهو يرى أن الخطأ يكمن في استسلام الإنسان لنزواته وشهواته، فلا بد من أن نحترم القانون الأخلاقي حتى ونحن ننتهكه، ومن الذي يستطيع أن يسيطر كلياً على نزواته وشهواته، فالبشر ليسوا ملائكة، ويقول: كل إنسان بصفته كائناً عاقلاً، أي مزوداً بإرادة، يتصرف من أجل التوصل إلى غاية أو نتيجة معينة، كما تحدث بصرامة تجاه الإنسانية، فالفرد يجب أن يتصرف وهو يضع الإنسانية نصب عينيه كغاية بحد ذاتها وليس كوسيلة، حتى الإنسان الضعيف أو الفقير الذي لا أهمية له ظاهرياً ينبغي أن نعامله كإنسان، أن نحترم الكرامة الإنسانية فيه، وهذا ينبغي أن يكون إيماناً من داخل الإنسان وليس مفروضاً عليه بقوة القانون مع أهمية فرض ذلك بالقانون، وهذا ما يدعوه كانط بمبدأ الاستقلالية الذاتية للإرادة الإنسانية، فالإنسان مستقل ومسؤول في آن معاً.
الأمر الأهم في فلسفة كانط هو تأسيسه للعقل النقدي، هذه الآلية العظيمة التي كانت وراء النهضة الأوروبية الحديثة، ووقوفه بصلابة تجاه العقل الدوغمائي والفكر الأيديولوجي والأصوليات الدينية، وكان يقول إن الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم هو الذي أيقظ في نفسه خطر الدوغمائية على طريقة تفكير العقل البشري، لقد فضح كانط آلية العقل الدوغمائي وقال عنه بأن مصيبة هذا العقل أنه يثق في نفسه وقدراته بشكل أعمى ودون مساءلة أو مراجعة، أما العقل النقدي الذي دعا إليه كانط فهو عقل يبحث ويراقب وينظر ويفتح عينيه على مختلف الجوانب، السلبية والإيجابية معاً، الحسنة والسيئة، ينظر بالعين الفاحصة ولديه الشجاعة والقدرة على التراجع والاعتذار إذا ثبت له الخطأ، أما العقل الدوغمائي فيتجاهل الأشياء التي لا تعجبه في الواقع، ويعتبرها غير موجودة، إنه لا يرى في الواقع إلا ما يحب أن يراه، يقول الأستاذ هاشم صالح: العقل النقدي باختصار هو ذلك العقل الذي يرفض العمى أو الخبط خبط عشواء، وطالما ردد كانط بأن المعرفة العمياء أو الدوغمائية لا يمكن إلا أن تكون مضرة للإنسان، فقد عاش كانط في أجواء عصر التنوير وبالتالي فهو يكره الظلام والعمى والدوغمائية.
وخاتمة القول .. الحضارة الغربية الأخيرة استندت على نظرية العقل النقدي الذي أودعها كانط في كتابه نقد العقل الخالص، وكانت نتائجها مدهشة في تحقيق النهضة الأوروبية، كما أنها السر الذي كان وراء العديد من المخترعات والمكتشفات العلمية.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814