الثقافية - علي القحطاني:
تحدث د. محمد سليمان المهنا لـ(الثقافية) في الجزء الأول عن علم تحقيق النصوص، وأنه علمٌ عربيٌّ أصيل، لا كما يُظن، ويُشاع أنه من اختراع المستشرقين وأشار إلى أن الكُتُب قبل أن تُكتب بخط اليد (وهذا ما يُسمّى بالمخطوطات) حتى عُرفت الطباعة أوّل مرة في ألمانيا في القرن الخامس عشر الميلادي، وهو القرن التاسع الهجري، وتوالى الحديث عن تاريخ الطباعة في العالم ومجيء الطباعة لمصر والمطبعة الأهلية ومطبعة بولاق أو المطبعة الأميرية، ويستكمل د. محمد بن سليمان المهنا حديثه في هذا الجزء عن المحققين الكبار (أحمد شاكر، ومحمود شاكر وعبد السلام هارون والسيد أحمد صقر ) تاريخ الطباعة والتحقيق في المملكة واهتمام صاحب الجلالة عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود - يرحمه الله - وأبنائه الملوك الميامين بنشر تراث السلف والكتب العربية.
نشر التراث في مصر
وفي هذه الفقرة يستكمل إجابته عما سبق عن مراحل نشر التراث في مِصر ويشير د. محمد سليمان المهنا إلى أن المرحلة الرابعة من مراحل نشر التراث في مصر وهي المرحلة الرابعة: هي مرحلة الأفذاذ من الرجال كما سمَّاهم الطناحي رحمه الله. ويَعْني بهم أربعةً من المُحققين الكبار الذين أثْروا الساحة العلمية، وأثّروا فيها، وهم أحمد شاكر، ومحمود شاكر، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر.
هؤلاء الأربعة وأمثالُهم، كانوا رجالاً أفذاذاً من حيث قوتّهم العلمية والعمليّة، ومن حيث نُصرتهم لإسلامهم وعروبتهم، ومن حيث عزّتهم واستعلائهم على أندادهم من المستشرقين.
فقد كانوا يرون -وصدقوا في ذلك- أن أسلافنا سبقوا المستشرقين في كثير مما قرروه، وأصّلوه من أصول تحقيق التراث من حيث إسنادُ الرواية وضبطُ الألفاظ ومقابلةُ النُّسَخ والسماعات والإجازات وقواعد الضبط والصحة والقبول والرد والخط والكتابة، إلى غير ذلك من الأصول والقواعد، وقد أسلفتُ كلمةً من كلمات الشيخ أحمد شاكر في ذلك، رحمة الله عليه.
الأفذاذ الأربعة
ذكرتَ أن المرحلة الرابعة هي مرحلة الأفذاذ من الرجال..نرجو بسط الكلام عن هؤلاء الأفذاذ
أول هؤلاء الأفذاذ الأربعة وأقدمهم الشيخ أحمد محمد شاكر، ومن أشهر ما نَشَرَ من الكتب: كتابُ (الرِّسالة) للإمام الشافعي رحمه الله، وكانت نَشْرتُه لذلك الكتاب من النَّشرات المُذهلة المستكملة لأسباب التوثيق والتحقيق، وكان اعتماده في نَشْرتِه تلك على مخطوطة قديمة كُتبت بخط الربيع بن سليمان تلميذ الإمام الشافعي، وذلك سنة خمس وستين ومئتين من الهجرة.
ومن الكتب التي نَشَرَها الشيخ أحمد شاكر، وكان عمله فيها على درجة عالية من درجات الإتقان: كتاب (المُعرّب للجواليقي)، وما زال العُلماء إلى يومنا هذا يعجبون من حُسن تحقيقه لهذا الكتاب وعمله فيه.
2- الثاني أخوه الشيخ محمود محمد شاكر، وقد كان علماً من أعلام المحقّقين، وعيناً من أعيان العلماء، ومجاهداً من أعظم المجاهدين بالبيان في هذا الزمان.
ومن أشهر تحقيقاته: نِصف (تفسير الطبري) و(طبقات فحول الشعراء) لمحمد بن سلّام الجُمحي، و(دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة)، وكلاهما لعبد القاهر الجُرجاني.
وبعد حياة حافلة بجهاد والاجتهاد توفّي العلّامة محمود شاكر عام ألف وأربعمئة وثمانية عشر للهجرة قبل وفاة شيخنا ابن باز بسنتين رحمة الله عليهما.
3- ومن هؤلاء الأفذاذ: عبد السلام هارون، وهو إمامٌ من أئمة هذا الشأن: أعني مجال تحقيق الكتب ونشرها.
ومن حَسَناته التي لا ينساها له كل من جاء بعده: تأليفه لكتاب كانت المكتبة العربية بحاجة إليه، ألا وهو كتاب (تحقيق النصوص ونشرها) وهو أوَّل كتاب عربي طُبع في هذا الباب، ثم ألّف فيه من بعده جمعٌ من العلماء.
ومن حَسَناته وأياديه الجميلة على قُرّاء العربية:نشرُه لكُتُب الجاحظ ولكتاب سيبويه و(معجم مقاييس اللغة) لابن فارس و(خزانة الأدب) لعبد القادر بن عمر البغدادي وغيرِها.
4- ومن هؤلاء الأفذاذ: السيِّد أحمد صقر، وهو محقّقٌ من كبار المحققين، وقد بدأ -رحمه الله- الاشتغال بالتحقيق عام ألف وثلاثمئة وثلاثة وخمسين، وكان أول منشوراته: تحقيق ديوان علقمة بن عَبَدة، حقّقه وهو شاب صغير، يدرس في المرحلة الثانوية في الأزهر.
وقد وصف الطناحي هذا الأستاذ الجليل بقوله: «هو أقْدَرُ الناس على تقديم كتاب، وتقويم نَصّ، وتوثيق نَقْل وتخريج شَاهد، واسْتِقْصَاء خَبر».
ومن تحقيقاته: (تأويلُ مشكل القرآن) لابن قتيبة، و(إعجازُ القرآن) للباقلّاني، و(مناقبُ الشافعي) للبيهقي وغيرُها.
ناشرو البلدان الأخرى
عرفنا نبذة عن ناشري مصر ومحقّقيها..ماذا عن البلدان الأخرى؟
نعم، العلماء والمحققون والناشرون العرب كثيرون جدّاً، وسأذكر بعضهم في هذه العجالة.
من أكبر أولئك الرجال وأعظمهم: الشيخ عبدالعزيز الميمني الراجكوتي.
وهو من أشهر المعتنين بالتراث من علماء القارّة الهندية، ومكانته عند المهتمّين بنشر التراث مكانة سامقة كبيرة جدّاً، ومن تحقيقاته: كتاب (سمط اللألي) لأبي عبيد، أبان فيه عن علم غزير وإحاطة عظيمة بالتراث العربي، ويُعدّ تحقيقه هذا آية من آيات الإبداع والإتقان في تحقيق النصوص وتوثيقها.
ومن أعظم من اعتنى بتحقيق التراث ونشره: الشيخ عبدالرحمن المعلّمي اليماني ثُمّ السعودي، وتحقيقاته كثيرة منها: تحقيقُه لـ (التاريخ الكبير) للبخاري، و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، و(الأنساب) للسَّمْعاني، وغيرُها كثير.
ومن المحققين الكبار: المحقّق الفلسطيني الدكتور إحسان عبّاس، رحمه الله، وقد حقّق موسوعاتٍ علميةً كبيرةً كـ (وفيات الأعيان) و (نفح الطيب) و(التذكرة الحمدونية)، وغيرها.
ومن المحققين الكبار: الشيخ حمد الجاسر رحمه الله ومن يقرأ كتابه «رحلات حمد الجاسر للبحث عن التراث» يعلم قدر الجهد الذي بذله هذا الرجل في التنقيب عن التراث.
ومن تحقيقاته: كتاب (الجوهرتين العتيقتين)، وكتاب (الدُّرر الفرائد المنظّمة، في أخبار الحاج وطريق مكة المعظّمة).
ومن المحققين الكبار: الشيخ شعيب الأرناؤوط، وهو من المُكثرين من التحقيق، وقد دخلتُ عليه في مكتبه، وقد ناهز التسعين فإذا هو يقوم بأعمال المراجعة الأخيرة لتحقيق فتح الباري، رحمة الله عليه.
ومن المحققين الكبار: الأستاذ الدكتور بشّار عوّاد معروف -حفظه الله- الذي يعمل في دأب منذ نصف قرن، حقَّق خلاله أكثر من ثلاثمئة وخمسين مجلدًا، أكبرها (تاريخ الإسلام) و( تاريخ بغداد) و(تهذيب الكمال) و(التمهيد) و(الاستذكار) و(المُحلَّى).
ولولا خشية الإطالة، لذكرت عدداً كبيراً من فضلاء المُحقّقين، وإنما ذكرتُ نماذج معدودةً تُذكّر بمن عداها وتدلّ على ما سواها.
المؤلفون السعوديون وتحقيق التراث
كان للملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود - يرحمه الله - وأبنائه الملوك الميامين دور في نشر التراث العربي حدثنا عنه، وماذا عن إسهامات المؤلفين السعوديين في السعوديَّة والسعوديين في مجال تحقيق التراث؟
نعم، والحديث عن ذلك سيكون مسك الختام إن شاء الله، وذلك بذِكْر طرفٍ من إسهام مملكتنا الحبيبة المملكة العربية السعودية، في نشر التراث العربيِّ عامَّة والإسلاميِّ خاصَّة.
أول من يُذْكر اسمُه، وتشكر جهودُه في هذا المجال: الملك عبد العزيز رحمه الله، فعلى نفقته طُبِعتْ كُتُبٌ كثيرةٌ من كُتُب الإسلام، كتفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، والمغني، والإنصاف، وكثيرٍ من كُتُب شيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القيِّم وأئمَّة الدعوة رحمهم الله.
وممَّن نفع الله به طلبة العلم نفعاً عظيماً: الملكُ فهد بن عبدالعزيز، وجهوده في نشر التراث قديمة عظيمة، وهي أكثر من أن تُحْصر.
ومن ذلك طبعُهُ لكتاب الصحاح للجوهري، الذي حقَّقه أحمد عبدالغفور عطّار، وفي أوَّله مقدِّمة مطوَّلة بقلم الملك فهد رحمه الله.
والأستاذ أحمد عبد الغفور عطَّار -والشيءُ بالشيءِ يُذكَر- واحدٌ من السعوديِّين الذين كانوا يُذْكَرون في المشهد الثقافي المصري، وأتذكَّر من أولئك السعوديِّين الآن سوى أحمد عبدالغفور عطَّار:
محمد حسين زيدان وحمد الجاسر وعبدالله الحصيِّن وعبدالعزيز الرفاعي وعبدالقدُّوس الأنصاري وأحمد المانع وعبدالعزيز المانع وفي العقود الأخيرة: عبدالرحمن بن سليمان العثيمين.
ومن ملوك بلادنا الذين كان لهم أحسنُ الأثر في نشر التراث: خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله، وما دارة الملك عبد العزيز التي أثَّرتْ في الساحة العلميَّة، وأثْرَتها بالكُتُب الشرعية والتاريخية، إلا ثمرةٌ من ثمراته وحسنةٌ من حسناته، بارك الله في عمره وأعماله.
ومن أبرز العلماء السعوديِّين الذين اعتنوا بنشر التراث: الوجيه الحجازي السلفي، الشيخ محمد نصيف رحمه الله، وأياديه في نشر الكتب مشهورة مشكورة.
ومن أبرزهم أيضاً: الشيخ محمد سرور الصَبَّان رحمه الله، وأياديه في نشر الكتب مشهورة أيضاً ومشكورة.
ومن علماء بلادنا الذين كان لهم باعٌ كبيرٌ في نشر الكُتُب: أبرزُ العلماء وأكبرُهم، وأشهرُهم وأعظمُهم قدراً: أعني شيخنا الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله، فقد نُشِرَ بسببه من الكتب ما لا يُحصى، وهو ركن ركين مكين من أركان النهضة العلمية التي عمَّت بلادنا في العقود الأخيرة، حتى صارت المملكة العربية السعودية قبلةَ المهتمِّين بالكُتُب الشرعية والدراسات الإسلامية.
ومن أكبر مفاخر البلاد السعودية: نَشْرُ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في سبعة وثلاثين مجلَّداً، جمعها الشيخ عبدالرحمن بن قاسم وابنُه محمد، وطبعها الملك سعود، فكانت فتحاً جديداً عظيماً على أهل العلم عامة، وعلى المُعتنين بعقيدة السلف خاصَّة.
ومن مفاخر الدولة السعودية: الجهود العظيمة التي قامت بها رئاسةُ الإفتاء ووزارةُ الشؤون الإسلامية والجامعات السعوديّة، وأخصُّ منها جامعةَ الإمام، وأخصُّ من منشوراتها: ما نشرتْهُ من تحقيقات الدكتور محمد رشاد سالم لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية.
بالإضافة إلى المشاريعُ الشخصية الكُبرى كمشاريع الشيخ عبدالله التركي والشيخ عبد الملك بن دهيش والشيخ بكر أبو زيد، رحمهم الله، وحَفِظَ من بقي منهم.
** **
@ali_s_alq