يظهر لي أنَّ جملة عبدالقاهر «التشبيهُ قياسٌ» تنبيهٌ على أنَّ التشبيهَ أصلٌ من الأصول العقليَّة التي يستدلُّ بها، فالتشبيهُ بما هو «أصل عقليٌّ» دليلٌ عقليٌّ مركَّبٌ من التقدير على المشاهدات الحسِّيّة أو الخطرات الفكريّة.
مثال التشبيه المركَّب من التقدير على المشاهدات الحسيّة: (هندٌ كالشمس)، وهذا تقدير شيء بشيء مستخرج من المشاهدات الحسيّة.
ومثال التشبيه المركَّب من التقدير على الخطرات الفكريَّة: (هندٌ كالمعنى اللطيف)، وهذا تقدير شيء بشيء مستخرج من الخطرات الفكريَّة.
ونتيجةُ هذا الدليل العقلي (التشبيه) ظنيّةٌ إلا إذا وقعت من قطعي الصدق (القرآن وصحيح السنة)؛ لأننا حينئذ نتعاملُ مع المتكلِّم لا مع المُتكلَّم به على قاعدة التسليم لما جاء في القرآن وصحيح السنّة متنًا وحكمًا.
وهذه النتيجةُ واقعةٌ في لحظة عقليَّة من أجل القبول والرفض على مستوى العقل، لكنَّها على المستوى النفسي مقبولةٌ قطعًا، بإمارة إحداثها في النّفس انفعالاً، أيًّا كانت ماهيةُ ذلك الانفعال.
ولعل ما تقدّم يبرز أمرًا مهمًّا في «التفكير البلاغي» عند عبدالقاهر الجرجاني، هو اهتمامه بالصناعة الكلاميّة في علم الكلام؛ لأنَّ بعض ما أشار إليه لا يمكن إدراكه إلا بعد الاطلاع على مصنفات علم الكلام.
وهذا الاهتمام بالصناعة الكلاميّة عنده لا يُشعرك بصرامة في تطبيق الحدود، بل إنّه يتخفف منها إلى الحدِّ الذي يظهر لك منه أنه يأخذُ بأدنى ما يقال في تقريب الشيء، كقوله: التشبيه قياس؛ إذ إنّ وضعه على حدود المنطق لا يحقق المقصود.
والأخذ بمعنى (تقدير الشيء بالشيء) يظهرُ لك منه أنّ عبدالقاهر يشتغلُ في «تأسيس الدليل العقلي البلاغيِّ» من خلال الخطابات المتعددة، وهذا يقتضي منه أن يسير في منطقة الوسط بين سائر العلوم والخطابات حتى يتأسس له من ذلك «نَظَرٌ بلاغيٌّ» موازٍ للنظر الكلامي والجدلي والأصولي والفلسفي والأدبيّ يُصافحها ولا يحتضنها.
ولعلَّ هذه الطريق التي سلكها عبدالقاهر أحدثتْ للبلاغة العربيَّة حضورًا آخر مغايرًا للحضورِ السابقِ لها بين أرباب الفصاحة والأدب، وسدنةِ الفلسفة والكلام، فصار لكلامه رسوخًا في نفوس الدارسين حتى اليوم.
ويمكن فهم عمل عبدالقاهر الجرجانيّ فهمًا حقيقيًّا إذا رأينا أنَّ ما قدَّمه عبدالقاهر الجرجانيِّ امتدادٌ في الماضي المعرفيِّ للبلاغة من أجل القطيعة مع ما يرفضهُ، والنقض لما يعيقُ تقدُّم المعرفة في «البلاغة العربية»، وإجراءات التفكير العلمي الثلاثة في نظرية «النظم» تأسيسًا للفهم، وتنزيلًا له في التفكير، وتمكينًا لنتائجه في المعرفة.
** **
د. عوض بن إبراهيم العنزي - جامعة الحدود الشمالية