الجزء الثاني
كيف نحول الحكاية الشعبية إلى سيناريو؟
كيف نحول الحكاية الشعبية، المثيرة والمشوقة، إلى سيناريو فيلم أو رواية؟
كما تعلمون، الحكاية الشعبية ذات نزعة شفهية، فالقول الشفهي، بطبيعته، يتخلله «فجوات» أثناء سرد الكلام والأحداث.
فالعقل يكمل ما نقص من فجوات الكلام المسموع. إن القول الشفهي، أحياناً، يغش السمع والفهم معاً.
الراوي لما ينتقل من حدث إلى حدث، أو من مشهد إلى آخر، فإن انتقاله يشبه القفزة، محدثاً فجوة بين المشهد الأول والمشهد الثاني.
بعبارة أخرى؛ قصة الحكاية تنتقل من الحدث الأول إلى الحدث الثاني، من دون أن تستوفي وتكمل أجزاء الحدث الأول، وتوفيه حقه في الإيضاح، فينتج عن هذا الانتقال السريع فجوة بين الحدثين أو المشهدين.
فيبدو للمتفحص أن كل حدث أو كل مشهد، مستقل بذاته وغير متصل ببعضه البعض، على الرغم من أنها قصة في حكاية واحدة، ولنفس البطل أو الشخصية.
يبدو أن راوي الحكاية، لما رواها، كان يعتمد اعتماداً كلياً على مستمعيه، في إكمال واستيفاء ما نقص من حدث قصته. الفجوات والنقص في المعنى الشفهي، يكملها العقل أو الادراك، بشكل آلي وسريع جداً، بدون ما ندرك ذلك، لحظة سماعها.
تلك الفجوات التي ذكرت، بالإمكان ملاحظتها في الحوار العادي، فلو يكتب شخص ثالث، حواراً ما بين شخصين آخرين، يتحدثون في أي موضوع كان، فسوف يلاحظ هذه الفجوات فيما كتبه من كلامهم.
على الرغم من أن سياق كتابتي هذه، ليس تقابلاً أو تناظراً ما بين الشفاهي والكتابي، إلا أن السؤال الذي يبرز من هذه الفقرة، هو: متى يتحد الكلام الشفاهي مع الكتابي؟
في الأفلام والمسلسلات، يوجد هذه الفجوات، ما بين مشهد ومشهد، أو حدث وحدث، لكن يتم استيقاء وإيضاح كامل المشهد والحدث معاً، قبل الانتقال إلى المشهد الذي يليه، بشكل مقنع ومقبول للمشاهد.
اختيار حكاية شعبية افتراضياً
إذا أردنا أن نكتب سيناريو أو رواية عن سنة السخونة/ الإنفلونزا الإسبانية، على سبيل المثال، فعلينا تقصي أكبر قدر من المعلومات، حول هذا الوباء، ونوظفها في النص، بطبيعة الحال.
سنة الرحمة أو السخونة، هو حدث «حقيقي» شهود هذا الحدث المؤسف، غير معروفين مبدئياً. والمعلومات حول هذه الجائحة، شحيحة جداً، وهذا يسبب إرباكاً وحيرة لكاتب السيناريو أو الرواية، إذا أراد الكتابة عنها.
لكن بالإمكان تخيل أو تصور أول شخص أصيب بالسخونة، في مجتمعنا آنذاك، ومن ثم كيف انتشرت، ومن ثم تخيل الناس الذين واجهوا هذا الوباء، وما مدى المعاناة التي لاقوها من انتشار المرض ومن تزايد الإصابات.
وفي مرحلة تالية، «نخلق» شخصيات الحدث/ الكارثة بأسمائهم المفترضة، وخطوطها الدرامية، ونشرع في كتابة السرد والحوار للشخصيات.
وبطبيعة الأمراض والجوائح، التي ضربت المجتمعات، هناك ناس لا نعرفهم، فيهم من قاوم هذا الوباء، وفيهم من فتك به المرض وماتوا.
في واقع الأمر؛ أن من المصاعب التي تواجه كاتب السيناريو بشكل خاص، هي خلق أو ابتكار المشاهد الأولى للشخصيات والأسر والمجتمع، حيث يتعين إظهار الناس وهم يمارسون حياتهم الطبيعية وأعمالهم اليومية، ما قبل الكارثة/الحدث الرئيسي.
هذه المشاهد الأولية، أشبه ما تكون ببانوراما لحياة الناس، مع الأخذ في الاعتبار، التركيز على شخصيات وأبطال السيناريو.
استطراد
هذه المصاعب، اعترضت لي في كتابتي لسيناريو «سنة الغرقة» التي حدثت في مدينة بريدة، وهو سيناريو لفيلم طويل.
كنت أشبه ما أكون في متاهة وضياع، ذلك، أن الصعوبة الكبيرة هي «كيف أبدأ»؟ ومن أين أبدأ؟ وبمن أبدأ؛ من شخصيات السيناريو المفترضة، ومن هي أو هو أو هم، التي يتعين التركيز عليهم، وظهوره المستمر على الشاشة.. وما هي قصص الشخصيات الواجب إظهارها، وكيف أربط الحدث الرئيسي (هدام البيوت) مع قصص الشخصيات في السيناريو؟
ولكني تغلبت على هذه المعضلة الصعبة، بكثير من الصبر وكثير من التخيل والتصور، لناس هذه الكارثة، وأنجزت حتى الآن 35 صفحة، ما يعادل 35 دقيقة من السيناريو.
ربما يقول أحدكم، لماذا لم تبحث عن شخصيات حقيقة عاصرت هذا الحدث المؤلم، خصوصاً أن سنة الهدام وقعت عام 1954، أي أن عمرها 69 سنة، وهو عهد قريب جداً، ما يعني أن هنالك أشخاص على قيد الحياة، بالإمكان جعل من شخصياتهم وبأسمائهم الحقيقية «أبطال الحدث».
بالطبع هذه فكرة عظيمة جداً، لكن ما ذكرته أو سوف أذكره، أنه سوف يقلل من حريتي في قص وسرد الحدث، واختيار مواصفات الشخصيات التي أريدها «أنا».
إضافة إلى هذا، وهو مهم جداً، ثقافة السنيما، وما يتبعها من كتابة السيناريوها، ثقافة حديثة وناشئة في مجتمعنا، فنحتاج إلى وقت معين، حتى يُكتب أبطال الأفلام بأسمائهم وأسماء عوائلهم الحقيقية، دون أي تحسس تجاه ذلك.
كما شاهدتم، معظم شخصيات الأفلام المصرية، تنسب إلى عوائل مصرية حقيقية، فالمصريون ليس لديهم أي حساسية في ذلك أبداً، حتى لو كانت شخصية الفيلم شريرة، فلا يتحسسون من ذلك.
ففي حالتنا، وبشكل مبدئي، نتماشى مع المقبول اجتماعياً، حتى تتغير الأفهم والثقافة.
انتهى الاستطراد
يتبع.
** **
- سليمان البطي