يعتبر عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي ( 1913-1995م ) من أكثر الكتّاب العرب إثارة في المسائل والأطروحات الاجتماعية، وقد ترك إرثاً مهماً يستحق القراءة والاطلاع والنقد والمراجعة، ومن أشهر كتبه: مهزلة العقل البشري وشخصية الفرد العراقي ولمحات اجتماعية في تاريخ العراق الحديث والأحلام بين العلم والعقيدة وأسطورة الأدب الرفيع، لكن ما يهمنا الآن هو أطروحاته الفكرية والنقاشات الفلسفية التي رصدها في كتابه منطق ابن خلدون والتي حاولت أن أوجز أهمها في هذا المقال.
ابتدأ الوردي كتابه بمعارضته لخصمه الشهير الباحث العراقي الدكتور محسن مهدي (1926-2007م) عندما قال بأن ابن خلدون (1332-1406م) لم يكن سوى تلميذ مخلص للفلاسفة القدامى لا سيما ابن رشد (1126-1198م)، وإنه بنى علمه الجديد على نفس الأسس التي بنى أولئك عليها تفكيرهم الفلسفي حيث إنه لم يجد حاجة إلى تغيير تلك الأسس أو التشكيك في صحتها، وأن الصحيح أن ابن خلدون ابتدع علم الاجتماع لأنه خالف النظام الأرسطي ولو أنه بقي عليه لما استطاع أن يبتكر علماً جديداً، بل إن النظرة على العكس تماماً، فالفلاسفة الإغريق كانوا بعيدين عن الواقع ولهذا كانت فلسفتهم مثالية، لم يختلطوا بالواقع أو المجتمع لأن عبيدهم كانوا يكفونهم عمل أي شيء أما الفلاسفة السفسطائيين فكانوا قريبين من الواقع، فكان من رأيهم أن ليس في الدنيا حقائق مطلقة، وإنما هي حقائق نسبية، فما يراه بعض الناس حقاً قد يراه الآخرون باطلاً، لقد كان من المتوقع أن يتطور على يد هؤلاء السفسطائيين علم الاجتماع ولكن الذين حصل أن النزاع الذي كان بين الفلاسفة والسفسطائيين انتهى إلى هزيمة السفسطائيين هزيمة نكراء حتى أصبح اسم السفسطة في النهاية لقباً يراد به الذم ويقصد به المغالطة والتفكير الملتوي.
بعد ذلك شرع الوردي بعقد مقارنة رائعة بين ابن خلدون وميكافيللي (1469-1527م) الذي عاش بعد ابن خلدون بقرن واحد تقريباً والذي يراه بعض المحققين أول من خرج عن ثوب الإغريق، ثم انتقل إلى موضوع مهم جداً والمنهج الأرسطي وأنه يتميز بخاصيتين أساسيتين : الأولى، أنه منهج صوري ( شكلي )، ولذا فإنه لا يتغلغل في أعماق الشيء أو يفهم العلة أو السبب منه، ولأن المسلمين قد تأثروا بالمنهج الأرسطي فقد ارتبكوا في التعامل مع البنوك في بداية الأمر، وضاعت عليهم عقودٌ من السنين وهم لا يتعاملون مع البنوك بسبب آراء فقهية لبعض المتزمتين بسبب أن هؤلاء الفقهاء كانوا حريصين على الشكل ( صورة الأمر الشرعي )، والثاني أنه منهج استنباطي، بمعنى أنه منهج يبدأ البحث بالاعتماد على كليات عقلية عامة ثم يستنبط منها النتائج الجزئية الخاصة، وهو بذلك يختلف عن منهج العلوم الحديثة الذي يعني الانتقال من الجزئيات إلى الكليات وهو ما يسمى بالمنهج الاستقرائي ولهذا يسمى منهج أرسطو بالمنهج الاستنباطي.
يقول الدكتور زكي نجيب محمود (1905-1993م) : كانت الفلسفة طوال القرون الوسطى تقوم على أساس خطأ لا يمكن أن يؤدي إلى علم جديد فقد اتخذت القياس المنطقي سبيلاً لتأييد المذاهب والآراء، والقياس المنطقي وسيلة عقيمة في كثير من وجوهه لأنك مضطر أن تسلم بمقدماته تسليماً لا يجوز فيه الشك، أما العلم الحديث فقد أثبت بطلان علم الفراسة، إذ أنه ليس هناك علاقة بين أخلاق الإنسان وبين ملامح وجهه أو شكل بدنه.
بعد ذلك انتقل الوردي إلى جماعة الشكاك، وهم جماعة عجيبة ظهرت في العالم الإسلامي وكان أثرها في تفكيره وفي حضارته شبيهاً إلى حد كبير أثر السفسطائيين في الحضارة الإغريقية وقد كتبوا في منهجهم الشكلي كتباً كثيرة إلا أنها أتلفت وأحرقت ولم نجد منها إلا ما نجده في كتب المنتقدين لهم من عبارات منقوصة وآراء مشبوهة ومن أمثالهم صالح بن عبد القدوس المتزندق المعروف وابن الرواندي والرازي الطبيب المشهور.
أيضاً، هناك نظرية للجاحظ (776-868م) عجيبة يناقض فيها مذهب المعتزلة المنتمي له وتناقض النزعة العقلانية التي هي من مبادئ المنطق القديم، فهو يعتقد أن العقل البشري لا يستطيع أن يرى الحقائق الخارجية رؤية صحيحة تامة، فهو محدود في مجال معين لا يستطيع أن يتعداه ولهذا فإن من الظلم أن نطالب الناس أن يحكموا في الأمور حكماً مشابهاً، إن مجال عقولهم مختلف ولا بد إذاً من أن تأتي أحكامهم مختلفة، وهذا طبيعي لا مفر منه، ويعلق الدكتور الوردي على النظرية الجاحظية بأنها رائعة حقاً وهي تقرب كثيراً مما توصل إليه علماء الاجتماع الحديث في موضوع ( اجتماعية المعرفة ) ولو أن الزمان حفظ لنا هذه النظرية لربما وجدنا الجاحظ أعظم من ابن خلدون، والظاهر أن هذه النظرية لم ترق في أعين المتزمتين فسعوا إلى إتلافها.
ينتقل الوردي بعد ذلك إلى عالم السنة والجماعة الإمام ابن تيمية، ويرى أن نقد المنطق قد وصل على يديه إلى القمة، وبأنه لم يقتصر في نقده للمنطق على نقض مبدأ العقلانية والسببية كما فعل الغزالي، إنما حاول نقض الأصل الذي يقوم عليه الاستنباط المنطقي والقياس وهو في هذا يشبه فرانسيس بيكون وجون ستيورات، بعد ذلك استعرض الوردي خمس حركات فكرية في تاريخ الفكر العربي حاولت أن تنتقص من أهمية النزعة العقلانية والمنطق الأرسطي.
ينتقل بعد ذلك إلى محور النظرية وأن ابن خلدون قد كتب مقدمته بشكل غير مرتب أو منظم مما جعل الباحثين مختلفين في محور النظرية، فيرى الأستاذ ساطع الحصري أن فكرة ( العصبية ) هي المحور الذي يدور عليه معظم المباحث الاجتماعية في المقدمة، وهذا مذهب أغلب من درس ابن خلدون ونظريته، وللدكتور طه حسين (1889-1973م) رأي آخر في محور النظرية الخلدونية، فهو يذهب إلى أن تلك النظرية تدور حول موضوع الدولة وبالتالي فابن خلدون لا يستحق أن نطلق عليه لقب عالم اجتماع لأن موضوع الدولة أضيق من أن يصلح موضوعاً لعلم الاجتماع، ثم يعقب على الرأيين بقوله: إني أخالف رأي الحصري وطه حسين، ففي رأيي أن نظرية ابن خلدون تدور حول موضوع واحد هو أوسع نطاقاً وهو ( صراع البداوة والحضارة ) ويمكن القول إن لها جانبين سكوني والآخر حركي، فالجانب السكوني يتمثل في تعيين خصائص البداوة والحضارة وكيف تظهر هذه الخصائص في كل منهما على حدة، أما الجانب الحركي من النظرية فيتمثل في دراسة التفاعل والتصارع بين البداوة والحضارة وما ينتج عن ذلك من ظواهر اجتماعية مختلفة، وبالتالي فخلاصة نظرية ابن خلدون هي أن المجتمع العربي ليس سوى نتاج لتضاد ( البداوة والحضارة ) وصراعهما من جهة وتفاعلهما من جهة أخرى.
ومن الأطروحات التي تناولها الوردي حول ابن خلدون نظرية العصبية، وهي نظرية خلدونية بامتياز، فالخلدونية عند ابن خلدون هي تلك الرابطة الاجتماعية التي تربط بين أبناء القبيلة وتجعلهم يتكاتفون في السراء والضراء، والعصبية قوية كل القوة في البداوة ولكن هذا التنازع بين هذه العصبيات المختلفة لا يكاد يختفي بتأثير دعوة دينية أو ما شابه حتى تظهر بذلك قوة ساحقة لا يقف في طريقها حائل وتتجه هذه القوة نحو البلاد المتحضرة لتؤسس الدولة الجديدة.
ينتقل الوردي بعدها إلى موضوع شديد الأهمية تجاه شخصية وعبقرية ابن خلدون وسبب إبداعه للمقدمة، يقول طه حسين: إن ابن خلدون ما كان في مقدوره إبداع نظريته لو كان قد عاش قبل الزمن الذي عاش فيه وهو إنما استطاع لأنه عاش في زمن أخذت تظهر فيه الموسوعات الضخمة، ومن المحتمل جداً أن تلك الموسوعات كانت عوناً لابن خلدون على توسيع فكرته الجوهرية ودعمها، أما المؤرخ الفرنسي ( جوته ) فيذهب إلى تعليل عبقرية ابن خلدون مذهباً عجيباً فيرى أن هذه العبقرية بسبب نفحة جاءت إليه من أوروبا عبر الأندلس، فالتفكير المبدع هو من خصائص العقلية الأوروبية الغربية وأن العقلية العربية الإسلامية عاجزة عن ذلك ولا بد إذاً من أن نفترض أن نفحة من النهضة الأوروبية قد خرقت البحر المتوسط لتصل إلى روح ابن خلدون الشرقية، وهذه من العنصرية الاستعلائية عند بعض الأوروبيين المتعصبين.
أما الدكتور ( غاستون بوتول )، عالم الاجتماع الفرنسي والمولع بابن خلدون فيقول : إن المجتمع الذي عاش فيه ابن خلدون قد تميز بظاهرة اجتماعية قلما نجدها بارزة مثل هذا البروز في أي مجتمع آخر، وهذه الظاهرة تتباين تبايناً صارخاً بين أقصى أنواع الحضارة وأقصى أنواع البداوة، وقد أدى هذا التباين إلى حدوث فوضى سياسية عنيفة جعلت الدول والإمارات تتابع في ظهورها واختفائها إثر الهجمات التي شنت عليها من قبل البدو، وعاش ابن خلدون في هذا الوضع يريد أن يؤسس لنفسه إمارة وجاهاً، فدخل معمعة السياسة واشترك في مؤامراتها وتقلباتها ثم أدرك أخيراً أنه غير موفق فيما أراد فأخذ يتأمل في أسباب فشله، وجره ذلك إلى أن يسأل نفسه : كيف تقوم الدولة؟، وما هو أصل البيوت المالكة؟ وكيف ينشأ البيت المالك؟.
أما الأستاذ ساطع الحصري (1789-1968م) فله رأي مهم أن أسرة ابن خلدون التي نشأ فيها كانت تتقلب بين رياسة علمية ورياسة سلطانية، وكان من شأن هذه البيئة العائلية أنها أنتجت في ابن خلدون نزعتين قويتين: حب المنصب والجاه من ناحية وحب الدرس والعلم من ناحية أخرى، ثم يعلق الوردي على هذه الآراء بأن ابن خلدون كان يعاني صراعاً نفسياً عميقاً لا يستطيع أن يتخلص منه فهو يحب السياسة والعلم معاً ويجد في كل منهما لذة خاصة فإذا انهمك في أحدهما زمناً عاوده الحنين إلى الآخر فرجع إليه.
** **
- عبدالله العولقي
@albakry1814