غادرَنا إلى الدار الآخرة الزميل العزيز الأستاذ د. محمد بن عبد الرحمن الهدلق الذي وارينا جثمانه الثرى يوم الاثنين 1445/6/26هـ بمقبرة النسيم في الرياض، رحمه الله رحمة واسعة وأسبغ عليه رضوانه. وقد زاملت د. الهدلق منذ عام 1403هـ في قسم اللغة العربية بكلية الآداب/جامعة الملك سعود حين عدت من البعثة فكان نعم الزميل والصديق؛ كان حازماً في تدريسه، حازماً في إدارته، لطيفاً في صداقته. انتُخب رئيساً لقسم اللغة العربية ثم تقلد عمادة كلية الآداب، ولم يختلف مسلكه القائم على الحزم والنزاهة والمتابعة التي لا تكلّ. وقد عرض عليّ آنذاك أن أتولى رئاسة فرع قسم اللغة العربية في كلية التربية حيث إن الأستاذ د. يوسف نوفل قد انتهى عقده مع الجامعة فقبلتُ وبقيت فيه إلى أن انتقلت الجامعة إلى المدينة الجامعية الجديدة آنذاك؛ حيث ألغيت فروع الأقسام نظراً لاجتماع الجامعة في مكان واحد في عام 1405هـ.
عاصر د. محمد الهدلق العصر الذهبي لقسم اللغة العربية يوم أن ضم القسم -تحت رئاسته- طائفة مميزة من الأساتذة كالأستاذ د. أحمد الضبيب ود. منصور الحازمي ود. أحمد زكي ود. عبد العزيز الفدا والأستاذ سعيد الأفغاني ود. محمود الربداوي ود. ناصر الرشيد ود. عبد العزيز المانع ود. محمد الصباغ ود. شكري عياد.... وغيرهم كثير ممن لا تحضرني أسماؤهم أو ممن لم يعاصروا إدارته للقسم كالدكتور عبد الله الغذامي الذي يشاطر د. الهدلق تدريس النقد العربي والدكتور محمد خير البقاعي.
كان قسم اللغة العربية يحظى بإقبال كبير من الطلبة؛ فكان الأساتذة مثقلين بأعباء تدريسية وأعداد كبيرة من الطلاب في كل شعبة. وكانت متابعة أداء الأساتذة عبئاً كبيراً عليه؛ إذ كانت مقررات اللغة العربية في الإعداد العام مفرقة في عدة كليات وكان ضبطها والتأكد من حضور الأساتذة يحتاجان إلى جهد تنوء به كواهل عدة رجال فما بالك برجل واحد, والحق أنه - وفقاً لاطلاعي- لم يكن مطمئناً لأداء بعض زملائه في الكلية لكنه تحمّل ذلك ونبههم كتابة وشفاهاً وسعى إلى تحسين أدائهم. وكان إبان عمادته للكلية مهموماً بأداء الأساتذة والانضباط في الكلية من ذلك مثلاً ما حدثني به بعض الزملاء من حرصه على المرور على قاعات الدرس في أثناء فترة الاختبارات للتأكد من حسن الرقابة على الممتحنين.
لقد كان د. الهدلق متمكناً من مادته تدريساً وبحثاً؛ فقد درّس البلاغة والنقد في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة ثم في جامعة الملك سعود. وفي أثناء مسيرته العلمية الممتدة كتب بحوثاً متميزة في البلاغة والنقد، وقد جمعها ونشرها كرسي د. عبد العزيز المانع فأسدى للعربية وقرائها خدمة جليلة؛ وأحسب أنه لولا ذلك لما جُمعت بحوث د. الهدلق المتفرقة بين الدوريات العلمية ولقلت الإفادة منها كحال كثير من زملائه؛ فجزى الله الأستاذ د. عبد العزيز المانع خيرا على هذا الجهد الطيب. ويبقى أن تلك الكتب ربما لا تصل إلى أيدي كثير من المتخصصين نظراً لضعف النشر لدى الجهة المعنية بالنشر في الجامعة.
بقي أن أقول إن جدية د. الهدلق ورزانته تخفيان وراءهما روحاً مرحة طيبة وذوقاً أدبياً رفيعاً. فقد اشتغلنا معاً عدة أشهر في تأليف مقررات اللغة العربية للمرحلة المتوسطة بناء على تكليف من وزارة التعليم لكنه لم يستمر، وكان انسحابه من دون ريب خسارة لنا في اللجنة لأن اختياراته للنصوص كانت موفقة وتنم عن ذوق عالٍ مدرك لجوانب الجمال في النصوص. وكانت جلسات اللجنة تستمر ثلاث ساعات فيها علم جم ومرح يطرد السأم وإنتاج علمي نفع الله به الطلاب عقدين من الزمان ولله الحمد.
لم تخل أيامنا في القسم من شد وجذب كعادة البشر؛ وظل د. الهدلق متحفظاً في أحكامه ومواقفه؛ لا يتعجل ولا يكثر الكلام ولم يفقد العلاقة الطيبة بزملائه ممن اختلف معهم أو وافقهم. وقد انعكس ذلك على منسوبي القسم جميعا فكانوا يختلفون ولا يتفرقون. وكان العلم والتعليم لديهم ذا أولوية على ما سواه من أمور تجر إلى الخلاف والشقاق. رحم الله أخانا د. محمد الهدلق وزملاءه ممن سبقوه إلى الدار الآخرة وبارك فيمن بقي من أساتذتنا وزملائنا. والحمد لله رب العالمين.
** **
- د. صالح بن سليمان الوهيبي